السبت 2017/09/02

أربع رسائل مخادعة للدبلوماسية الدولية ومراكز الدراسات حول سوريا

مركزالجسر للدراسات....

المتتبع لتصريحات المصادر السياسية والدبلوماسية الدولية، ومراكز البحوث والدراسات العالمية حول الشأن السوري في الآونة الأخيرة يجد أنها تتمحور حول أربع قضايا أساسية:

الأولى: أن الأسد باقٍ في منصبه، وأنه هزم الثورة.

الثانية: تخلي أمريكا عن الأكراد بعد السيطرة على شمال شرق سوريا.

الثالثة: خضوع سوريا للحماية الإيرانية والروسية في فترة ما بعد الحرب.

الرابعة: قرب إعلان النصر على تنظيم الدولة.

سنستعرض في هذه الورقة كيف أن هذه التصريحات تحتوي على مجموعة من الخدع المتعمدة، وأنها لا تعدو كونها رسائل سياسية مرحلية، سيطرأ عليها تغييرات جذرية لاحقاً.

القضية الأولى: أن الأسد باقٍ في منصبه، وأنه هزم الثورة:

هذه الرسالة المحمومة تسبق انعقاد مؤتمر الرياض 2 للمعارضة السورية، وتهدف في ظاهرها إلى أمرين اثنين:

1- عدم إدراج رحيل بشار كشرط مسبق للمفاوضات، والقبول بوجوده في المرحلة الانتقالية، وإجراء عملية الانتقال السياسي بغطاء دستوري.

2- عدم إدراج تفكيك الأجهزة الأمنية والعسكرية، أو إعادة هيكلتها في المرحلة الانتقالية.

المعارضة التي ستحضر الرياض 2 شبه جاهزة للوقوع في هذا الفخ، وستجد الضغط الدولي المعتاد بانتظارها في كواليس المؤتمر، بل هناك معارضة ستحضر بمشاريع تحمل هذه الرؤية، وعلى رأسها "منصة موسكو".

المعارضة الوطنية تخشى أنه ما لم يخرج الأسد مع بدء المرحلة الانتقالية، فقد لا يخرج بعدها أبداً، وأنها فقط ستكون منحته كل أدوات القوة والشرعية ليبقى في منصبه، وهي ستناضل جاهدة لتثبيت موقفها هذا، لكنها ستعطي تنازلات في ملفي الجيش والمخابرات، وستقبل بعدم المساس بهما، وهنا سر الحبكة الدولية هذه، فالروس والإيرانيون من طرف يريدون استمرار هذه الأجهزة باعتبار تبعيتها لهم، وتغلغلهم فيها بشكل كبير، وباقي الأطراف الإقليمية والدولية ترى ضرورة هذه الأجهزة لـ"مكافحة الإرهاب"، ولبسط السيطرة والأمن في فترة ما بعد الحرب، وحصر السلاح بيدها، ودمج بقايا "الجيش الحر" معها، والعمل على خروج الميليشيات الطائفية والمرتزقة وحزب الله من سوريا.

إذن بالمجمل.. المجتمع الدولي غير مهتم كثيراً ببقاء بشار في منصبه، بقدر ما هو مهتم بعدم عودة الإرهاب ليجد ملاذاً آمناً في سوريا، ويضطر هو للعودة لمحاربته كما حدث في العراق.

حتى روسيا وإيران لن تتحملا تبعات ذلك، فقضايا الانتهاكات وجرائم الحرب ستبقى تلاحق بشار، كما هو حال رئيس السودان اليوم، كذلك عدم رفع العقوبات الاقتصادية، وعرقلة مشاريع إعادة الإعمار، وغيرها.

رغم كل هذا فروسيا وإيران ستستمران في المساومة على بيع الأسد للحصول على أعلى سعر ممكن له، وهو في النهاية قد لا يُقتل على أسوار دمشق، لكنه سيجد منفى له في إيران، حسب رأي بعض الدبلوماسيين الغربيين.

قضية "بشار الأسد" طُعم مطلوب من المعارضة ابتلاعه، كي تساوَم هي الأخرى على رحيله مقابل استمرار الأجهزة الأمنية والعسكرية بوضعها الحالي، أو مع إدخال تغييرات في الحدود الدنيا عليها.

هنا يكمن جوهر الرسالة الدولية اليوم.. أن يعطيك ورقتين لتقبل بإحداهما، فإن قبلت بها فأنت خاسر، وإن رفضتها فأنت خاسر، والمعارضة وصلت لهذه المعضلة، فقبول استمرار الأجهزة الأمنية والعسكرية على وضعهما الحالي، مقابل رحيل بشار خيار خاسر، والإصرار على تفكيكها، أو إعادة هيكلتها سيعرّض عملية الانتقال السياسي لخطر تجميدها فترة أخرى قد تطول، بسبب المخاوف الدولية في قضية مكافحة الإرهاب، وضرورة استمرار هذه الأجهزة للمشاركة فيها، وهو خيار خاسر يعني المزيد من القتل والدمار والفوضى في البلاد.

المطلوب من المعارضة في الرياض 2 :

أولاً: تثبيت فقرة "دون أن يكون لبشار الأسد، وأركان ورموز نظامه، مكان فيه، أو في أي ترتيبات سياسية قادمة "كما كانت في الرياض1.

ثانياً: الاتفاق على تقديم خطة متكاملة لفقرة " الرياض 1 " المتعلقة بـ " الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، مع وجوب إعادة هيكلة وتشكيل مؤسساتها الأمنية والعسكرية"، مع أخذ الضمانات الكافية للعمل عليها ضمن الإصلاحات التي ستجري في المرحلة الانتقالية. وهذا هو الجزء من الرسالة الدولية الذي يمكن أن تتعامل معه المعارضة حصرياً، دون الالتفات للجزء الأول من الرسالة، أو أخذه على محمل الجِد، وتدخل في مفاوضات حوله بما يضمن مكافحة الإرهاب واستقرار الأمن، كما يضمن خضوع هذه الأجهزة للسلطة المدنية القادمة في البلاد.

بغير ذلك تكون المعارضة قدمت تنازلاً مجانياً، سيفقدها مصداقيتها والمشروعية التي تحتاجها من الشعب السوري، وسيسبب انقسامات واختلافات كبيرة بينها، وانسحابات من المؤتمر، ويضعف الموقف التفاوضي لمن سيستمر منها، ويخوض جولة جنيف 8.

القضية الثانية: تخلّي أمريكا عن الأكراد بعد تحرير شمال شرق سوريا:

صحيح أن أكراد سوريا لا أمل لهم في إنشاء دولة ضمن الحدود السورية، كما فعل أكراد العراق هناك، فعوامل الجغرافيا والتاريخ، والديموغرافيا السكانية لا تتيح لهم ذلك في أي بقعة من بقاع سوريا، ومن المكابرة معاندة هذه العوامل مجتمعة، وسيكون الأمر خطأً تاريخياً عابراً لا يلبث أن يزول، ورغم أن أمريكا تدرك ذلك جيداً، وتعمل وفقه، إلا أنها ستبقى تستخدم الورقة الكردية لابتزاز تركيا، وتزعزع من خلالها استقرارها الأمني، وتعرقل نموها الاقتصادي، وتربك قيادتها السياسية، إلى الحد الذي يدفعها لتنكفئ على نفسها وتنشغل بقضاياها الداخلية، وتتخلى عن أدوارها الإقليمية، أو محاولة تزعم العالم الإسلامي السنّي والدفاع عن قضاياه.

أمريكا ليست وحيدة هنا بل يشاركها في ذلك الاتحاد الأوربي، وروسيا وإيران والاحتلال الإسرائيلي، وعدد من الدول العربية في المنطقة، وكلُّ له أسبابه.

ستكون تركيا دفعت ثمناً باهظاً من أمنها واقتصادها قبل أن تقرر أمريكا التخلي عن الأكراد، لأجل حليفتها في الناتو، الأمر الذي سيحدث في النهاية، لكن بعد سنوات من المفاوضات المضنية التي ستخوضها تركيا.

إذن جزء الرسالة الأول المخادع هو فقط لضمان انخراط تركيا في مكافحة الإرهاب، واستمرار التنسيق والتعاون الاستخباراتي والعسكري معها بهذا الشأن، ولضمان ضغط تركيا على المعارضة السياسية والعسكرية السورية المرتبطة بها، أو التخلي عنها حال عدم قبولها بخطوات التسوية السياسية حسب التفاهمات الدولية.

جزء الرسالة الثانية المخادع موجه للأكراد للبحث من الآن عن حليف غير أمريكي يدعم مشروعهم، وأمامهم خيار روسيا أو إيران، بالطبع روسيا لن تقبل بذلك؛ فهدفها وحدة الأراضي السورية تحت سلطة حكومة مركزية في دمشق، وهي كذلك لها مصالح مشتركة مع تركيا، تبقى إيران التي سيتحوّل معها الكرد إلى فصيل ميلشياوي مسلح شبيه بـ"حزب الله" جنوب لبنان، لكن دون أي أفق سياسي، وإيران ستفعل هذا نكاية بتركيا أولاً، وكنوع من إثبات نفوذها في سوريا الذي ستفقده في المناطق الأخرى في سوريا –كما سيأتي-ثانياً. هذا الخيار هو الأنسب لأمريكا، فتركيا ستستمر تحت الضغط، والحاجة للدعم الأمريكي، ويبقى التوتر موجوداً بين إيران وتركيا، وفيه من المصالح الأمريكية ما لا يخفى.

المطلوب من المعارضة الوطنية الكردية الآن أن تبقى ضمن المشروع الوطني حسب الرياض 1، على أن تحل المشاكل العالقة فيه تدريجياً، وأن تحافظ على مكانتها في تمثيل أكراد سوريا في مفاوضات جنيف، كما هو الحال الآن.

والمطلوب من المعارضة الوطنية السورية أن تمنع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي "ب ي د" ، من المشاركة في الرياض 2، أو الحصول على حق المشاركة في تمثيل الأكراد في مفاوضات جنيف، كما تطالب به منصات مثل موسكو والقاهرة، وحتى هيئة التنسيق.

القضية الثالثة: خضوع سوريا للحماية الإيرانية والروسية في فترة ما بعد الحرب:

سيعود مستوى العلاقات الروسية السورية في كل المجالات إلى سابق عهده قبل الثورة، مع محاولة روسيا الحصول على امتيازات ليست كبيرة تُظهر سوريا كأنها تحت الحماية أو الوصاية الروسية، وستكون هذه الامتيازات -لو حصلت- في الأماكن التي لا يراها عموم الشعب السوري الذي ينظر إلى الروس كشريك للنظام في كل الانتهاكات والجرائم التي حصلت.

ستكون الامتيازات العسكرية والاستخباراتية هي السائدة، كذلك في عقود إعادة الإعمار مع الجهات الرسمية الحكومية بعيداً عن مراكز المدن كحقول النفط والغاز، وبعض المنشآت الصناعية.

أما إيران فهي تتجهز لمغادرة المنطقة، وليس للاستقرار فيها، فالمزاج الدولي لا يسمح بذلك في سوريا تحديداً.

أول المعترضين على بقاء إيران هو "إسرائيل"، وقد أبلغ رئيس وزرائها "نتنياهو" الرئيس الروسي "بوتين" في آخر لقاء بينهما موقف إسرائيل الرافض لأي وجود الإيراني قريباً من الحدود السورية الفلسطينية، فانتشار "مليشيا حزب الله" في لبنان بحد ذاته مشكلة لـ"إسرائيل"، فكيف إذا حصل على دعم لوجستي إيراني قريب منه جغرافياً.

نفس الموقف تماماً تتخذه دول عديدة مثل الأردن وتركيا والسعودية ومعها دول الخليج عموماً. وهو يتفق مع الموقف الأمريكي من تمدد إيران في المنطقة وتهديدها لحلفائها التقليديين فيها؛ بل هو نفس الموقف الروسي الذي يرى في الوجود الإيراني منافساً له في منطقة نفوذ تاريخية له، تعتبر موطئ القدم الوحيد الباقي لروسيا على شواطئ المتوسط.

ليس فقط في سوريا، لكن قد يتراجع الوجود الإيراني حتى في العراق أيضاً، فالدول الكبرى "الاستعمارية" لن تدع إيران تستحوذ على كامل المكاسب من بلد نفطي غني مثل العراق، وستعمل على تحجيمها فيه.

إذن الرسالة فقط لتخويف دول المنطقة من البعبع الإيراني، ودفع تكاليف الحماية الأمريكية منه لمن عنده أموال كدول الخليج، ولاستمرار النفوذ الأمريكي عند غيرها.

المطلوب من المعارضة السورية كما فعلت في جنيف 2، رفض أي دور إيراني في جنيف أو في أستانا، وإعلانها كعدو محتل للبلاد، فالظروف الدولية مواتية لهذا الرفض، والرسالة السابقة لا تعدو عن كونها صادرة عن لوبي يعمل لصالح إيران.

القضية الرابعة: قرب إعلان النصر على تنظيم الدولة:

كما إن الجميع بحاجة لتنظيم الدولة، فالجميع بحاجة لإعلان النصر عليه.

تنظيم الدولة اليوم هو الفزّاعة التي تضبط سلوكيات الشعوب في العالم بأجمعه تقريباً، عربيِّه وأجنبيِّه. وتجعلهم تحت سيطرة حكوماتهم بشكل أو بآخر.

الحكومات العربية كما نظام الأسد، تقدم لشعوبها أحد خيارين: إما هي على عُجَرها وبُجَرها دون أي إصلاح لآليات الحكم فيها، أو أن تنظيم الدولة قادم لا محالة، لذا فقضية الإصلاح ستبقى مؤجلة إلى حين القضاء المبرم على التنظيم، وأي صوت وطني ينادي بالإصلاح ستكون تهمة الانتماء للإرهاب، أو مناصرته، أو التعاطف معه جاهزة في وجهه.

الحكومات العربية هي أسعد الناس حظاً باستمرار هذا التنظيم الرهيب، فهو يمدها بأعظم أسباب بقائها، والشعوب ستبقى مستكينة أملاً بإعلان النصر على التنظيم يوماً ما، لتبدأ بعدها بالمطالبة بحقوقها دون أن تتعرض لما تعرّض له الشعب السوري، الذي صار عبرة لمن يعتبر.

الدول الأجنبية أنعش التنظيم أسواق تصنيع السلاح، وبيعه فيها، وأوجد لها ساحة حقيقية لاختبار أسلحتها وترويجها، وأتاح لها مراجعة الكثير من الخطط والاستراتيجيات العسكرية المنفردة لجيوشها، والمشتركة مع جيوش وقوات دول أخرى.

أيضاً الحكومات الأجنبية بذريعة مكافحة الإرهاب غيّرت العديد من قوانين الحريات الشخصية، وانتهاك الخصوصية، بذريعة الحفاظ على أمن المواطنين، والمواطنون قبلوا مرغمين، فالخطر يحتمل ذلك.

رسائل قرب إعلان النصر على تنظيم الدولة وسيلة لاستمرار هذا كله، وإعلان النصر سيتأخر كثيراً، وحتى لو أعلنه البعض في بعض الأماكن، فسيستمر القتال، أو سيُفتح في أماكن أخرى جديدة، ريثما يظهر عدو جديد يحقق الأهداف السابقة.

بالنسبة للسوريين، تنظيم الدولة والنظام وجهان لعملة واحدة من الوحشية والقتل والقمع وانتهاك حقوق الإنسان، ومع أن المعارضة السورية يجب أن تتابع مسارها في مكافحة الإرهاب، ميدانياً وفكرياً، إلا أنه مطلوب منها بالتوازي أن تقدم خياراً ثالثاً للشعب السوري غير الأسد وغير تنظيم الدولة، يحمل فيه هذا الخيار ملامح الحكم السياسي العصري والحضاري الذي يرتكز على حقوق الإنسان، ويعتمد مبدأ المواطنة.

المقصود هنا أن تجميد عملية الانتقال السياسي إلى ما بعد القضاء "القريب" على تنظيم الدولة هو الفخ المنصوب للمعارضة السورية، وعليها أن تصرّ على فتح مسارات العملية التفاوضية الأربعة بشكل متوازٍ لا على التسلسل الذي يريده النظام.