الأربعاء 2020/02/19

هكذا استخدمت روسيا “أستانا” للقضاء على أي حل في سوريا

روسيا تخوض حرباً مروّعة في حلب، والمدينة على وشك السقوط، والمعاناة الإنسانية في أوجها، ويُعرض مشروع القرار S/2016/1026 بتاريخ 5/12/2016 على مجلس الأمن، يدعو القرار إلى وقف إطلاق النار في حلب، وتمكين الوكالات الإنسانية من تلبية الاحتياجات العاجلة، وتسهيل إجراءات وخطط عمل الأمم المتحدة في إجلاء المدنيين من المناطق المحاصرة، وضمان رصد وقف إطلاق النار بصورة ملائمة.

استخدمت روسيا والصين فيتو مزدوجاً ضد القرار، بذريعة أنّه "ينتهك النظام الداخلي المؤقت لمجلس الأمن" لأنه طرح على التصويت قبل مضي 24 ساعة على :النسخة الزرقاء" له، وبذريعة أن القرار سيمكّن المقاتلين المعارضين للنظام من تدعيم صفوفهم، ومعاودة التزوّد بالإمدادات اللازمة لهم لاستمرار القتال.

ردود الفعل الغاضبة داخل مجلس الأمن لا تعني للروس شيئاً، فالحفاظ على مكاسبها العسكرية في حلب هو الأهم من كل شيء الآن، ومندوبها "تشوركين" أبلغ المجلس -وكما قال حرفياً: بأمانة مقدّماً- أن بلاده ستصوّت ضد القرار، ما دعا مندوب الأوروغواي ليقول في كلمته: "ما هو خطير للغاية أنّ المجلس لا يزال غير قادر على الاضطلاع بدوره، ويمكننا أن نسأل أنفسنا عن فائدة هذه الجلسة، فهي بشكل ما قد تذكّرنا برواية "غابرييل غارسيا ماركيز" وقائع موت معلن، التي يعلم فيها الجميع بأنّ أشقّاء فيكايو سيقتلون في ذلك اليوم "سانتياغو نصار" ولكن لم يفعل أحد شيئاً لمنع ذلك".

كان المطلوب في هذا القرار كما جاء في مداولات الأعضاء أن تتمّ عمليات الإجلاء تحت مسؤولية الأمم المتحدة، وأن تؤمّن حماية المدنيين المغادرين شرق حلب، لا أن يبقى هذا الأمر خاضعاً لروسيا التي صرّح بعض أعضاء المجلس أنّها طرف في النزاع.

بعد سقوط هذا القرار بأسبوعين، وإثر اشتداد العمليات العسكرية، وارتفاع وتيرة النزوح من حلب بسبب القصف الروسي العنيف للأحياء المدنية، عاد مجلس الأمن للانعقاد في 19/12/2016 وليصوّت حينها على القرار 2328 الذي مرّ هذه المرّة دون فيتو روسي، فقد كانت الصور الصادمة من حلب، حول حجم الانتهاكات المرتكبة هناك، وضرورة الإجلاء الآمن لمن تبقىّ من سكان الأحياء الشرقية، ستضع الروس في مواجهة لا تحسد عليها اتجاه المجتمع الدولي.

القرار 2328 تاريخ 19/12/2016

القرار 2328 في البند الثالث منه "يطلب إلى الأمم المتحدة، والمؤسسات الأخرى ذات الصلة، أن ترصد الوضع رصداً كافياً ومحايداً، وأن تضطلع بالمراقبة المباشرة لعمليات الإجلاء من الأحياء الشرقية في حلب، والأحياء الأخرى في المدينة، وأن تبلّغ عن ذلك حسب الاقتضاء، وأن تكفل زيادة نشر الموظفين لهذه الأغراض حسب الحاجة، ويطالب جميع الأطراف بأن تتيح لهؤلاء المراقبين الوصول إلى تلك الأحياء على نحو آمن وفوري ومن دون عوائق".

وفي البند الرابع منه "يؤكّد أهمية ضمان أن يكون مرور جميع المدنيين من الأحياء الشرقية في حلب، أو المناطق الأخرى إلى المقصد الذي يختارونه مروراّ طوعيّاً وآمناً تصان فيه كرامتهم، في إطار عمليات الرصد والتنسيق تضطلع بها الأمم المتحدة، والمؤسسات الأخرى ذات الصلة".

للتذكير هنا كان الاتحاد الأوربي قد وقّع اتفاقاً مع تركيا يقضي بموجبه بقاء اللاجئين في تركيا، وعدم انتقالهم إلى دول الاتحاد الأوربي.

كما إنّ القرار في البند السابع منه "يطلب إلى الأمين العام أن يتخذ خطوات عاجلة لوضع الترتيبات، بما في ذلك الترتيبات الأمنيّة بالتشاور مع الأطراف المهتمة بالأمر، من أجل السماح للأمم المتحدة، والمؤسسات الأخرى ذات الصلة بمراقبة سلامة المدنيين، فضلاً عن الاحترام الكامل للقانون الدولي الإنساني داخل الأحياء الشرقية لمدينة حلب، وأن يخطر مجلس الأمن بهذه الترتيبات، وأن يضطلع بالنشاط المذكور أعلاه على الفور عقب ذلك".

البند الثامن في ختام القرار "يطلب كذلك إلى الأمين العام أن يقدّم تقريراً إلى مجلس الأمن عن تنفيذ هذا القرار، بما في ذلك تنفيذه من قبل الأطراف في الميدان، في غضون 5 أيام من اتخاذ هذا القرار".

إذن القرار 2328 تاريخ 19 كانون الأول/ديسمبر 2016 يذهب للمرة الثانية في تاريخ قرارات مجلس الأمن حول سوريا، إلى إنشاء بعثة مراقبين دوليين يُناط بها تنفيذ المهام الواردة في القرار، كانت المرة الأولى في القرار 2043 تاريخ 21 نيسان/أبريل 2012 الذي قرّر في البند الخامس منه "أن يُنشئ لفترة أوّلية مدتها 90 يوماً بعثة الأمم المتحدة للمراقبة في سورية، بقيادة رئيس للمراقبين العسكريين على أن تشمل نشراً أوّلياً يصل إلى 300 من المراقبين العسكريين غير المسلحين، إضافة إلى عنصر مدني ملائم حسب ما تحتاج إليه البعثة لتنفيذ ولايتها".

باشرت هذه البعثة عملها في سوريا بقيادة اللواء "روبرت مود" النرويجي، في 29 نيسان/أبريل 2012 أي عقب 8 أيام فقط من تاريخ قرار إنشائها، لكن تقرير الأمين العام(S/2012/523)بعد شهرين تقريباً من عملها بتاريخ  6 تموز/يوليو 2012 تضمّن الإعلان عن تعليق أعمال البعثة منذ 15 حزيران/يونيو 2012 بسبب "تراكم العقبات التي تحول دون تنفيذ مهام الولاية، نظراً لمستوى العنف، والقيود المفروضة على الوصول بغرض الرصد، والاستهداف المباشر" أي لعناصر وآليات البعثة التي لم تعاود عملها منذ ذلك التاريخ.

كان فشل بعثة الأمم المتحدة هو الثاني بعد فشل بعثة المراقبين المرسلة من جامعة الدول العربية بقيادة الفريق أول السوداني محمد مصطفى الدابّي التي باشرت عملها في 27/12/ 2011، لكنه سرعان ما أعلن الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي، أنه قرر بعد مشاورات مع عدد من وزراء الخارجية العرب "وقف عمل بعثة المراقبين العرب في سوريا بشكل فوري" بسبب "لجوء الحكومة السورية الى تصعيد الخيار الأمني" ما أدى الى ارتفاع عدد الضحايا. كان هذا الإعلان بعد شهر واحد فقط من بدء عمل البعثة.

سياق الأحداث بعد القرار 2328 يدلّ على أنّ روسيا كانت قد بيّتت النيّة لإفشال تطبيقه، وأعدّت خطّة محكمة لقطع الطريق على الأمم المتحدة في إرسال بعثة مراقبين تفضح أعمال روسيا أولاً، وتساهم في إرساء وقف إطلاق نار وإدخال مساعدات إنسانية وحماية المدنيين ثانياً.

كيف قطعت روسيا الطريق على إرسال بعثة المراقبين الدوليين إلى سوريا؟

بعد التدخل العسكري الروسي أواخر عام 2015، عملت روسيا أوائل عام 2016 على إبرام اتفاق مع الولايات المتحدة عبر ما سمّي "مجموعة التنفيذ المشترك" المعروفة اختصاراً بـ (JIG)، والتي كان الهدف منها حسب ما ورد في مقدمة الاتفاق  "هو تمكين تنسيق موسّع بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي بما يتيح توفير مجال جوي آمن للطيران. المشاركان في المجموعة يعملان سوياً بغية هزيمة جبهة النصرة وداعش وفي سياق تعزيز وقف الأعمال العدائية ودعم العملية الانتقالية السياسية المبنيّة على قرار مجلس الأمن رقم 2254".

كان الاتفاق غطاء مناسباً للعمليات العسكرية الروسية ضد المدنيين، وضد فصائل المعارضة (المعتدلة) بحجة مكافحة التنظيمات الإرهابية، وتأمين الأجواء السورية لطائراتها لتعمل دون مخاطر بعد إسقاط القوات التركية لطائرة سوخوي 24 الروسية قرب الحدود التركية السورية، وزعمت موسكو يومها أنها أسقطت داخل الأراضي السورية.

لكن بقيت الخلافات الروسية الأمريكية تحول دون تطبيق هذا الاتفاق، والاتفاقات اللاحقة مثل ما يمكن أن نسمّيه اتفاق "الكاستيلو" الطريق المعروفة في حلب، والذي كان مقرراً أن يدخل حيّز التنفيذ في 12 أيلول/سبتمبر 2016.

في هذا الاتفاق يمكن إطلاق اسم الدولتين الضامنتين على الولايات المتحدة وروسيا، الولايات المتحدة ضامنة للمعارضة السورية المسلّحة وموافقتها "على احترام الالتزامات الواردة في اختصاصات مركز التنفيذ المشترك" وروسيا بالمثل ضامنة لنظام الأسد، لكن مع فشل أعمال مجموعة التنفيذ المشتركة، بدأت روسيا في البحث عن بديل مؤهّل ليكون ضامناً للمعارضة، لذا سارعت إلى تصفية الأجواء مع تركيا، وإيجاد نوع من التفاهمات والشراكة بينهما في الملف السوري.

إعلان موسكو 20/12/2016

آخر شيء كان يمكن أن توافق عليه موسكو هو إرسال بعثة مراقبين دوليين إلى سوريا، لذا تعدّ موافقة موسكو على القرار 2328 لذرّ الرماد في العيون لا أكثر، فقد كانت حضّرت لعقد اجتماع في موسكو في اليوم التالي تماما لصدور القرار، يضم إلى جانبها كلّاً من تركيا وإيران، وتحدثت في بيانه الختامي عن مسألتين جوهريتين:

الأولى: الجهود المشتركة للدول الثلاث في "إجراء الإجلاء الطوعي للمدنيين، وإخراج مسلّحي المعارضة" من حلب، وهذا يوازي تماماً البند الأول من القرار 2328 الذي يتحدث عن الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة "لتنفيذ عمليات إجلاء المدنيين والمقاتلين من أحياء مدينة حلب" وبالتالي فلا داعي لإرسال بعثة مراقبين دوليين للقيام بهذه المهمة.

الثانية: فتح مسار أستانا حول مستقبل سوريا، ليخطّ لنفسه مساراً مستقلاً بعيداً عن مسار جنيف وقرارات مجلس الأمن الدولي.

على هامش هذا الاجتماع أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، أن خبراء من روسيا صاغوا وثيقة "إعلان موسكو" الذي يرقى إلى خارطة طريق لإنهاء الحرب في سوريا، وأنه وفي حال التوقيع على "إعلان موسكو" فإن الموقعين على الإعلان المزمع، سيكونون ضامنين للتسوية، ولعملية وقف إطلاق النار، وتابع: "نحن سنكون قادرين على القيام بدور الضامن، لتنفيذ عملية وقف إطلاق النار في سوريا".

وبسبب وضوح التعارض بين هذا الإعلان وبين القرار 2328 فقد صرّح المندوب الروسي تشوركين حينها "أن قرار مجلس الأمن الدولي بشأن سوريا لا يتحدث عن تشكيل بعثة مراقبة أممية في حلب، وأنه يجري الحديث فقط عن توفير طريقة لتمكين أفراد الأمم المتحدة من مراقبة ما يجري هناك، مشيراً إلى أنه يجب الاتفاق على ذلك". و "أنه من الضروري القيام بكل ما يجب لكي لا يستخدم المسلحون الباقون في شرق حلب وجود المراقبين الأمميين للقيام باستفزازات".

 اتفاقية تشكيل وفد الفصائل المعارضة المسلّحة ووفد النظام

تسارعت الأحداث بعد إعلان موسكو لتسابق مهلة الأيام الخمسة التي يجب على الأمين العام للأمم المتحدة فيها تقديم تقريره عن تنفيذ القرار 2328، ولاغتنام غياب الطرف الأمريكي عن الساحة في الفترة التي يجلس فيها ترامب على كرسي البيت الأبيض، بادرت موسكو إلى إبرام اتفاقية تشكيل وفدي المعارضة المسلحة والنظام، وإصدار بيان يتعلّق بإرساء نظام وقف إطلاق النار، وصدر بيان من وزارة الخارجية التركية حول دعم روسيا وتركيا لتفاهم وقف إطلاق النار باعتبارهما الدولتين الضامنتين له، مع الإعلان عن اجتماع لوفدي "النظام والمعارضة في وقت قريب في أستانا بحضور البلدين الضامنين"، كما تم نشر اتفاق بشأن آلية تسجيل انتهاكات نظام وقف إطلاق النار، ونظام تطبيق الجزاءات على المنتهكين من طرف الدولتين الضامنتين، وأودعت هذه الاتفاقات في خمس مرفقات في رسالة أرسلت للأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 29/12/2016، لينعقد بعدها مجلس الأمن ويصدر القرار 2336 تاريخ 31/12/2016 مرحّباً "بالجهود التي تبذلها روسيا وتركيا من أجل وضع حدٍّ للعنف في سورية، وبدء عملية سياسي، ويؤيّد هذه الجهود، ويحيط علماً بالوثائق الصادرة عن روسيا وتركيا في هذا الصدد، كما تضمّن القرار تطلّع مجلس الأمن "إلى الاجتماع المقرر عقده في أستانا".

إذن القرار 2336 أسدل الستار على القرار 2328 وصار هو البديل عنه، وليتوقف معه فعالية مسار المفاوضات السياسية في جنيف، وإن كان مستمراً في الانعقاد شكلياً، حتى إن المبعوث الخاص السابق دي ميستورا صار يشارك في جولات أستانا التي وصلت الآن إلى 14 جولة، ومثله كذلك فعل المبعوث الجديد بيدرسن.

أهم محطات أستانا كان اتفاقيات خفض التصعيد في المناطق الأربع التي نقضتها جميعاً روسيا، وهي الآن على مشارف مدينة إدلب آخر مناطق خفض التصعيد، والأمور تسير باتجاه مواجهة عسكرية بين تركيا وقوات نظام الأسد ما لم تتراجع هذه الأخيرة إلى النقاط التي رسمتها اتفاقية سوتشي 17 أيلول/سبتمبر 2018.

روسيا لم تكن جادّة في يوم من الأيام في الوصول إلى حل سياسي في سوريا، بل كانت دوماً تسعى إلى فرض الحل العسكري بالقوة لإبقاء بشار الأسد ونظامه في السلطة، واتخذت مسار أستانا كغطاء لها لتسوّق نفسها راعية أو صانعة للسلام في سوريا، وهو ما يجب وضع حدٍّ له بعد ظهور كذبها ومخادعتها في كل خطواتها في هذا المسار.

الخسائر التي نتجت عن هذا التصرّف الروسي في مسار أستانا أكبر من أن توصف، ومجلس الأمن متهم بشكل رئيسي بالتواطؤ في قبول هذا المسار، ومثله في هذا التواطؤ الأمم المتحدة التي تنصّلت من مسؤولياتها في تطبيق القرار 2328، والذي هو نقطة البداية التي يجب العودة إليها الآن وبشكل فوري، لتدارك هذا الخطأ الذي يصل إلى حد الجريمة، وعلى مجلس الأمن أن يعمل على فرض وقف إطلاق النار، وإرسال بعثة مراقبين دوليين، أو قوة حفظ سلام، لحماية المدنيين وضمان أمنهم وسلامتهم، وتكليف المبعوث الخاص بالتركيز على تنفيذ بيان جنيف والقرار 2254، وقرارات مجلس الأمن المتعلقة بإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة، وعلى مجلس الأمن منع روسيا من استخدام حق النقض الفيتو باعتبارها طرفاً في النزاع، حيث يمنعها من ذلك ميثاق الأمم المتحدة، أو اتخاذ القرارات المتعلقة بهذه القضايا عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة تفادياً للفيتو الروسي.