السبت 2018/10/27

“اللجنة الدستورية”.. اللعبة الجديدة لنظام الأسد


مركز الجسر للدراسات..


مشكلة نظام الأسد اليوم ليست مع المبعوث الخاص "استافان دي ميستورا"، وهي لم تكن كذلك منذ تم تعيينه قبل أربعة أعوام ونيّف في عهد الأمين العام السابق للأمم المتحدة "بان كيمون"، لا بل كثيراً ما كانت المعارضة تعتبر "دي ميستورا" أقرب إلى النظام منه إلى المعارضة، وأنه في سبيل استمراره في مهمته رضخ مرات عديدة للإملاءات الروسية التي كان يراها في فترة من الفترات اللاعب الوحيد المؤثر أو المهتم بالملف السوري، كما كان يكرر في أكثر من مناسبة.

 

دي ميستورا هو الذي تبنّى الرؤية الروسية لفهم بيان جنيف 30 حزيران/يونيو 2012، وأودعها في "مسوَّدة الإطار التنفيذي لبيان جنيف" التي رفضها مجلس الأمن حينما قدمها دي ميستورا بإحاطة مغلقة في شهر تموز/يوليو 2015، كان الخلاف الأساس قد نشب بين روسيا والمجتمع الدولي ممثلاً بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية، حول تفسير بيان جنيف بشأن مصير الأسد في المرحلة الانتقالية، ودوره في هيئة الحكم الانتقالي، فالمجتمع الدولي يرى عدم وجود دور للأسد فيها، فيما تصرّ روسيا على بقائه، إلى الوصول للحالة النهائية للبلاد.

دي ميستورا أراد سوق الأمم المتحدة إلى جملة قضايا في تفسير بيان جنيف أهمها:

 

1-تقسيم المرحلة الانتقالية إلى قسمين: مرحلة انتقالية تحضيرية، تمارس هيئة الحكم الانتقالي خلالها سلطات تنفيذية محددة، ومرحلة انتقالية كاملة تتمتع فيها هيئة الحكم الانتقالي بسلطات تنفيذية كاملة (مع إمكانية استثناء السلطات البروتوكولية).

 

2-تقسيم هيئة الحكم الانتقالي إلى قسمين أيضاً: في المرحلة التحضيرية تكون السلطات التنفيذية التي لا تمتلكها هيئة الحكم الانتقالي بيد سلطات النظام. ويمكن اعتبار هذه السلطات حكومة "تصريف الأعمال".

 

3-القبول ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية: "فوجود المرحلة التحضيرية يسمح ضمنياً باحتمال استمرار الرئيس في ممارسة بعض المهام خلال هذه الفترة".

 

ليس هذا كل شيء، فـ"دي ميستورا" كان يخطط لإجراء تغييرات دستورية وحكومية بالحد الأدنى، وإدخال إصلاحات فقط على الأجهزة الأمنية والعسكرية، وعدم الذهاب إلى اجتثاث البعث، وغير ذلك مما طرحه في إحاطته تلك التي رفضها مجلس الأمن كما سبق، لكن "دي ميستورا" وفريقه مضيا في تنفيذ خططهم عبر مجموعات العمل الأربع التي وافق عليها مجلس الأمن، والتي تم اختزالها لاحقاً واحدة تلو الأخرى لتقتصر العملية السياسية في سوريا على "لجنة دستورية" كانت نتاج مؤتمر في سوتشي دعت له روسيا، فيما لم يحقق مسار جنيف من جولته الثالثة إلى التاسعة أي تقدم تحت رعاية دي ميستورا، بينما استقال سلفه "الأخضر الابراهيمي" بسبب انهيار جولة واحدة من جولات جنيف، وسبقه "كوفي عنان" بالاستقالة بسبب عدم حصول الدعم الدولي اللازم لتنفيذ خطته للسلام المكونة من ست نقاط كان قد اقترحها في مجلس الأمن.

 

يمكن تلخيص ثمرة عمل دي ميستورا على مدار السنوات الأربع الماضية بورقة المبادئ الاثني عشر التي أصدرها في 30 تشرين ثاني/نوفمبر 2017، الورقة التي وقعّت عليها المعارضة ورفضها النظام في ختام جولة جنيف 8، هذا اليوم الذي يبدو أن دي ميستورا قد اختاره ليكون آخر يوم في مهمته، سيذكّر دي ميستورا العالم كله بإنجازه العظيم هذا في رسالة استقالته، وقد يحمل إلى جانبها صورة جمعه منصات المعارضة الثلاث وجها لوجه مع النظام في جولة جنيف 7، يومها سنكون قد أسدلنا الستار حقيقةً على حقبة دي ميستورا.

 

إذا لم تكن مشكلة النظام مع دي ميستورا، فما الذي يرمي إليه النظام الآن حين يرفض "قائمة الخمسين" التي اقترحها المبعوث الأممي لعضوية اللجنة الدستورية؟

 

النظام لديه جملة أهداف من هذا الرفض:

 

1-كسب الوقت: الأمر الذي نجح فيه طيلة السنوات الماضية، وفيه تغيّرت معطيات ووقائع كثيرة على الأرض، كما تغيرت مواقف دول من النظام، معظمها مال إلى صالحه، وظهرت تحالفات دولية جديدة واختفت أخرى.

 

2-إنهاء تدويل الملف السوري: النظام بقي على رفضه لأي تدخل أممي منذ بيان جنيف، وحضوره جولات جنيف كان كعدمه تماماً، فهو لم ينخرط في أي مفاوضات فعلية مع المعارضة، واستمر يماطل ويجادل في القواعد الإجرائية والبروتوكولية، وجدول الأعمال، ومراده من ذلك الاعتراف الدولي بأن "الأزمة" داخلية، وليس من صلاحيات الأمم المتحدة التدخل فيها.

 

3-فرض شروطه على المجتمع الدولي: فتاريخ الأنظمة الديكتاتورية الشبيهة بنظام الأسد تقول إنه لا يتأثر بالعقوبات الدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية، إن لم يكن ذلك يساعده على الهيمنة والسيطرة أكثر، وإنه قادر على تصدير أزماته إلى دول الجوار، وإلى دول أبعد من ذلك، وتتمثل في الحالة السورية على الأقل في مسألتين: قضية اللاجئين، وقضية التنظيمات الإرهابية، وإنه سيحاول ابتزاز المجتمع الدولي من خلالها ويفرض شروطه عليه، وأقل ما فيها القبول ببقاء النظام في الحكم، ولا مانع لديه حينها من إدخال بعض الإصلاحات الشكلية لذرّ الرماد في العيون، وكذلك لا مانع لديه بعدها من التعاون في حل هذه الأزمات التي صدّرها إلى الخارج.

للعلم.. فإن "قائمة الخمسين" لا تتمتع بأدنى درجات المصداقية والحيادية التي يتحدث عنها دي ميستورا، وهي إلى جانب النظام أقرب منها بدرجات إلى أن تكون بجانب المعارضة، ورغم ذلك دخل النظام في مساومات مع دي ميستورا في جهتين اثنتين:

 

الأولى: استبدال بعض أسماء الكتلة المحسوبة على النظام، بأسماء أخرى أكثر ولاء "وتشبيحاً". وكان للنظام ما أراد، حيث تم قبول عدد من هذه الاستبدالات التي طلبها من دي ميستورا.

 

الثانية: رفع حصة النظام في "قائمة الخمسين" على حساب حذف بعض المستقلين "الحياديين" وبعض الذين يصنّفهم النظام أنهم أقرب إلى المعارضة.

 

اصطدم الطلب الثاني بصخرة الأمين العام للأمم المتحدة "غوتيريس"، كما كان الحال في رفض الموافقة على حضور المبعوث دي ميستورا في سوتشي سابقاً إلا بشروط، الشروط التي كان قد وضعها الأمين العام هي ما دفع النظام لرفض مخرجات سوتشي بعد موافقته على المشاركة فيه، وللتذكير فإن "غوتيريس" كان قد اشترط حسب بيان صادر عنه ثلاثة شروط:

 

1-اعتماد البيان الختامي "للنقاط الـ 12السورية – السورية الحية" التي طرحها دي ميستورا في نهاية جولة جنيف 8.

 

2-أن تكون اللجنة الدستورية تحت إشراف الأمم المتحدة ووفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.

 

3-وأن الاتفاق النهائي على ولاية ومراجع إسناد وصلاحيات ولائحة إجراءات ومعايير اختيار أعضاء هذه اللجنة الدستورية، سيتم عبر العملية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف.

 

إضافة إلى شرط رابع غير معلن تم الاتفاق عليه مع وزير الخارجية الروسي لافروف، وهو أن انعقاد سوتشي لمرة واحدة، لا أن يكون مساراً بديلاً عن جنيف.

 

دي ميستورا حين زار دمشق للمرة الأخيرة، زارها وهو مجرد من عروض التنازلات التي كان يقدمها للنظام طيلة فترة ولايته، النظام الذي كان يرى أن التنازلات قادمة مع دي ميستورا، أدرك أنه قرأ هذه الزيارة بغبائه المعتاد، كان عليه أن يتأمل لماذا قدّم دي ميستورا استقالته قبل زيارة دمشق، دي ميستورا حين لم يستطع زحزحة موقف الأمين العام وتليينه في قبول إدخال تغييرات على قائمة الخمسين، يمكن القول إن الأمين العام طرد دي ميستورا من منصبه لأنه طلب ما لا يتفق مع معايير الأمم المتحدة بشكل من الأشكال، وبهذا لم يعد صالحاً لهذه المهمة.

عندما فوجئ النظام بهذا الموقف المتشدد من الأمين العام الذي أبلغه دي ميستورا للنظام في عقر داره، خرج وزير خارجية النظام "وليد المعلم" ليتحدث عن شعارات السيادة الوطنية وتعارضها مع الدور الأممي في تسهيل ورعاية أعمال هذه اللجنة.

 

هل سيحقق النظام شيئاً جراء هذا الرفض؟

فقط المماطلة وإضاعة الوقت، اللجنة الدستورية مشروع روسي الآن، وروسيا لا تريد التخلي عنه، وكذلك لا تستطيع التنصل منه، وهي بالأمس واجهت عاصفة من الانتقادات في مجلس الأمن، واتهامات بالمراوغة وخداع المجتمع الدولي، وعجزها عن الضغط على نظام الأسد، أو أن رفض النظام جرى بالتنسيق مع الروس حين وجدت روسيا نفسها أيضاً أمام صلابة الأمين العام للأمم المتحدة في سحب المنظمة برمّتها من هذا المشروع ما لم يتم بحسب نقاط الاتفاق مع لافروف، وما لم يتطابق مع معايير المنظمة الدولية.

 

إذن لا بد أن رفض النظام تم بإيعاز من الروس، والروس استبقوا اجتماع الرباعية في إسطنبول بهذا الرفض، لاستثماره على أكمل وجه في مباحثاتهم مع ممثلي الاتحاد الأوروبي في الرباعية: ألمانيا وفرنسا، وهو ما ستنقله فرنسا وألمانيا إلى اجتماع المجموعة المصغرة للدول السبع يوم الإثنين القادم 29/10/2018 في لندن، وستكون حصيلة هذه المداولات على طاولة مجلس الأمن يوم 31/10 حين الاستماع للتقرير الأخير لدي ميستورا قبيل نهاية مسيرته الوظيفية في الأمم المتحدة.

ستعود الأمور إلى مجاريها عقب هذه الاجتماعات المكوكية، سيكون هناك بعض التعديلات الطفيفة على اللجنة الدستورية ترضي إعلامياً جميع الأطراف، وسيجري الاحتفال بإطلاقها بحضور المبعوث الأممي الجديد خليفة دي ميستورا، لتبدأ بعدها ملحمة ماراثونية للجنة دستورية استعدّ لها النظام جيداً بمجموعة من الشروط التعجيزية تتمحور كما كان الأمر في جنيف حول القواعد الإجرائية والبروتوكولية، وجدول الأعمال، والصلاحيات، والرئاسة والتصويت وغيرها.

 

رفض النظام على لسان وليد المعلم، هو كالرفض الذي كان من معاونه "أيمن سوسان" لمخرجات سوتشي، قال الروس يومها هذا الرفض لا قيمة له، وبالفعل انساق النظام لتقديم قائمة الخمسين الخاصة به للمبعوث الدولي، لكن كما اعتاد النظام دائماً هي "مخاض عسير" و"ولادة قيصرية" للجنة دستورية تنفرد بالمشهد السياسي للعامين القادمين، ليمرّا كما تخطط روسيا دون تحقيق نتائج كبيرة ملموسة إلى أن يحين موعد الانتخابات الرئاسية المعتادة في سوريا، هذا أمر لا يخفيه الروس، بل يصرحون به في كل لقاءاتهم عادة. لكن هناك سيظهر موقف المجتمع الدولي الحقيقي من الأسد بالذات، وإمكانية السماح له بخوض هذه الانتخابات أو منعه منها.