الثلاثاء 2019/04/30

هل ستكون إدلب آخر المدن المتوحّشة على وجه الأرض؟

الجسر للدراسات


مصطلح "حرب المدن المتوحّشة" أحد أحدث أنواع واستراتيجيات الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية، كما ورد على لسان الميجور جنرال المتقاعد "جون دبليو سبنسر" رئيس دراسات الحرب الحضرية في معهد الحرب الحديثة خلال محاضرته الأخيرة يوم أمس الاثنين، في منتدى "أمن المستقبل" بالعاصمة واشنطن.

حسب المقاييس العسكرية الأمريكية حقّقت هذه الاستراتيجية نجاحات باهرة في المدينتين الوحشيتين الأسوأ في القرن الحادي والعشرين، مدينة الموصل في العراق، ومدينة الرقة في سوريا، والتي كانت كل واحدة منهما عاصمة للخلافة المزعومة للبغدادي زعيم تنظيم الدولة، والمعروفة اختصاراً باسم "داعش".

بعد سنوات من وقوع المدن بيد المسلحين تكون شبكة بالغة التعقيد قد بنيت تحت الأرض كما هو الحال فوقها، فمن المتاريس ومرابض الأسلحة الثقيلة وقناصات الشوارع والساحات وسطوح الأبنية، إلى الخنادق وحقول الألغام وشبكات الاتصال والطائرات المسيّرة، وورشات صناعة الذخائر والأسلحة والصواريخ، وما يكون تحت هذه المدن يحتاج التعامل معه إلى ما يسمّى اليوم "الحرب الجوفية" فالأنفاق القتالية وشبكات الصرف الصحي ومترو الأنفاق والبنية التحتية، تفرض اليوم نوعاً جديداً من التعامل معها، الموضوع  أشبه بسرطان استشرى في الجسد وانتشر في جميع أجزائه، ولم تعد المعالجة الجراحية الموضعية كافية لاستئصال الجزء المريض، ولا بد من إبادة المرض عبر المعالجة الكيماوية، بنفس الطريقة التي تعمل بها أسلحة التدمير الشامل والإبادة الجماعية.

عوضاً عن القيام بعمليات برية واسعة النطاق كما حدث في أفغانستان مثلاً، يمكن التحول عن الدخول في معركة مع دولة على كامل مساحة أراضيها إلى التركيز على "المدينة المتوحّشة" كما حدث في الموصل والرقة، وتسويتها بالأرض. الآثار الجانبية لمثل هذه المعارك تعتبر تفاصيل يتم إهمالها وتجاهلها، من حيث الخسائر البشرية أو المادية، فقضايا موت ونزوح السكان أو حتى اتخاذهم من قبل المسلحين كدروع بشرية، تبقى قضايا ثانوية، ولو وصلت إلى مستويات مرتفعة جداً.

نتائج معركة قرية "الباغوز" تشجّع على المضيّ قدماً في هذه الاستراتيجية. تمكن ترامب من إعلان النصر والقضاء على تنظيم الدولة في شرق سوريا. مشكلة هذه الاستراتيجية أن الخروج من آثارها يستلزم وقتاً طويلاً جداً لإعادة إعمار المدن المدمّرة، وتأهيلها لتكون صالحة لعودة السكان المحليين إليها، وهو ما يجعلها عرضة لعودة التنظيمات المهزومة للسيطرة عليها مرة ثانية، أو لظهور أمراء حرب جدد تتجدد معهم الفوضى ويطول الوصول إلى حالة من الاستقرار.

انتهت جولة أستانا 12 التي ترعاها الدول الثلاث الضامنة: روسيا وتركيا وإيران، دون تحقيق تقدم يذكر في ملف تشكيل اللجنة الدستورية، إن لم نقل إنها مُنيت بفشل ذريع لم تعرفه الجولات الإحدى عشرة السابقة، وعلى إثرها بدأ التهديد الروسي باجتياح إدلب معقل "جبهة النصرة" المدرجة على قوائم المنظمات الإرهابية، وبدأ بعدها القصف من كلا طرفي قوات النظام، والقوات الروسية على العديد من البلدات والقرى القريبة من إدلب، وترافق ذلك بعمليات نزوح كبيرة للمدنيين خوفاً من ارتفاع وتيرة هذا القصف في الأيام القادمة، أو حدوث هجوم بري لقوات النظام، والحرس الثوري الإيراني، وميليشيا حزب الله اللبناني، والميليشيات الطائفية الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية.

المدنيون في إدلب سيكونون الضحية الوحيدة أو الضحية الأكبر لمعركة "المدينة المتوحّشة" الأخيرة في سوريا، والروس والنظام وإيران سيتبعون نفس الاستراتيجية الأمريكية في تدميرها بالكامل وتسويتها بالأرض، فذريعة مكافحة الإرهاب ستعطيهم الإذن بذلك مع عدم الخوف من تبعات جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وحجم الانتهاكات التي سترافق هذه المعركة، فقد سبقتهم الولايات المتحدة إلى فعل ذلك ثلاث مرات في الموصل والرقة والباغوز.

الضغط الأكبر سيقع على عاتق تركيا التي تحمّلها روسيا مسؤولية عدم إخراج النصرة من إدلب، كذلك تأخذ عليها سعيها للانتشار طويل الأمد في المناطق الشمالية من سوريا، وتشكيل ما يشبه دويلة صغيرة تابعة لها على غرار شمال قبرص، وخصوصاً بعد انتقال المعارضة السياسية السورية إلى الداخل وافتتاح مقر لها قرب مدينة الراعي الحدودية، حيث تعتبر روسيا ذلك انتقاصاً لسيادة نظام الأسد.

"هيئة تحرير الشام" ( جبهة النصرة سابقاً) ستتمترس داخل أحياء المدينة ضاربة عرض الحائط بكل النداءات التي ستوجّه لها بتحييد المدنيين والخروج من الأحياء والتجمعات السكنية، أو بحلّ نفسها كتنظيم وإعلان الانتماء إلى الجيش الوطني الذي يصنّف ضمن الفصائل المعتدلة في سوريا، والمنخرطة في العملية والمحادثات السياسية على مساري جنيف وأستانا.

الولايات المتحدة مع أنها تحذّر روسيا من مغبّة اجتياح إدلب، لكنها لن تفعل شيئاً فيما لو حدث هذا الاجتياح، من مصلحتها أيضاً الضغط على تركيا، وإيجاد خلاف بينها وبين روسيا بما يخرّب أو يوقف على الأقل صفقة صواريخ S400 التي تعترض الولايات المتحدة عليها.

هل يمكن للدبلوماسية الدولية احتواء مثل هذا السيناريو الكارثي، وتجنّب آثاره الهائلة، وخصوصاً في موجة تسونامي لأكثر من مليوني شخص لن تستطيع تركيا استيعابهم ولا كسر موجتهم التي قد تضرب أوروبا من جديد كما حدث في موجة عام 2015؟؟