الأربعاء 2021/07/07

العنف الثوري والثورة السورية.. أسباب ومبررات

الثورة السورية تثير الجدل في كل ما يتعلق بها، انطلاقاً من أسبابها، وعوامل انبثاقها، وتوقيتها، وطبيعة المشاركين بها، وأسباب تأخير انتصارها، وستبقى كذلك مادة غنية للدراسة بكافة العلوم الاجتماعية والإنسانية، لفترة قد تطول لعقود وربما أكثر من ذلك.

ومن المواضيع التي أثارت الجدل والانقسام داخل صفوف المنتسبين للثورة وخارجها، قضية (العنف) واستخدامه وسيلةً لزعزعة استقرار النظم السياسية بهدف تغييرها بما يلبي طموحات مواطنيها.

وبالمقابل ثمَّة من يرى في العنف سبب كل ويلات الثورة وتأخير انتصارها، وآخرون يرون فيه ضرورة ومتلازمة ثورية، ورغم اتفاقهم على سبب العنف ومُوجده إلا أنهم مختلفون في كيفية التعاطي معه.

العنف إنتاج سلطوي بامتياز

في البداية علينا أن نقرَّ بأن الطرفين متفقان على أن العنف هو من إنتاج السلطة.

فالسلطة هي التي تُوقد شرارة العنف، وتدفع إليه، وتحدّد مقداره، بمقدار ما تلجأ السلطة إلى القوة في قمع الثورة، تلجأ البؤر الثورية إلى عنف يوازي قوة القمع السلطوية ويتحداها.

ودليلنا من ثورات الربيع العربي، في تونس لم يتجاوب الجيش مع أوامر القمع الصادرة إليه، فغاب العنف إلى حد كبير، فجاءت ثورة الياسمين نقية من العنف الثوري، وفي مصر في بداية الثورة أخذ الجيش دور المراقب، فخف العنف الثوري رغم وجود عنف سلطوي.

أما في سورية فكان عنف الدولة الوحشيّ شاملاً غير مسبوق وغير محدود بقوانين أو قيم أو روادع، لقد تحولت الثورة إلى صراع مسلح نتيجة إصرار النظام على خيار القمع المسلح، وهو خيار استراتيجي استخدمته السلطة السورية منذ أن جثمت على صدر الشعب، وسلبت حقوقه بالقمع، وردّت على أي مطلب منذ استلامها بالعنف، فلذلك اعتقدت السلطة السورية أن حالة (الثورة) تشبه الحالات السابقة التي قمعتها بالقوة.

إن النظام السوري عمل جاهداً على دفع الثوار للعنف من أجل إخراج الثورة من حالة من حالات المجتمع السياسي، إلى حالة أخرى، لأنّ العنف يخرج الثورة من نظرية سياسية إلى نظرية مضادة لما هو سياسي.

السلطة السورية وبعنفها المفرط دفعت الاحتجاجات السلمية إلى العنف الثوري، لعلمها بأن هذا العنف لا يتلاءم مع النفس البشرية السليمة، فالثورة التي تلجأ إلى العنف، ستفقد الكثير من أنصارها بالداخل، ومن مؤيديها بالخارج.

يعلم النظام السوري جيداً تغير التراتبية الدولية للقيم، وأن (الإرهاب) اليوم في المجتمع الدولي تتقدم محاربته إلى المرتبة الأولى على حساب كل المنظومة القيمية والأخلاقية.

 لذلك دفع الثوار إلى العنف، حتى يعزز مقولته عنها إنها إرهاب، وهذا ما سيؤلب على الثورة أغلب حكومات العالم، التي ستستخدمه ذريعة ومبرر في مواجهة شعوبها إذا ما أرادت لومها على وقوفها مع حكومة مستبدة.

ويقين السلطة السورية بعدم توازن القوة بينها وبين من ثار ضدها جعلها تعمل بكل جهدها للوصول إلى خيار الصراع المسلح.

وجاءت ردة فعل الثوار طبيعية بالدفاع عن أنفسهم مستندين لمبررات تاريخية وشرعية.

مبررات تاريخية

كل غاية تحتاج وسيلة للوصول إليها، والسمة الظاهرة والغالبة على الثورات استخدامها لوسيلة (العنف) للوصول إلى غاية (التغيير)، والتاريخ أثبت أنّ عملية الانتقال من زمن الاستبداد إلى عهد الحرية لا يتم ضمن التطور الطبيعي للمجتمعات الإنسانية، بل لابدّ من الثورة التي هي فعل (العنف) من الجماهير باتجاه السلطة المستبدة.

ومن أجل أن يحصل الإنسان على حقوقه، ويتمتع بها بعد ذلك، يضطر الإنسان للثورة التي يفرضها بالقوة، التي تدعمها وتحملها من عالم الأمنيات إلى عالم الواقع، إذ إن وعيه لهذه الحقيقة (المرة) يدفعه إلى العنف، وبهذا السياق فسَّر نيلسون مانديلا تحول منظمته إلى العنف، في إفادته أمام محكمة ريبورتا 2/4/1964: "شعرنا أنه بدون العنف لن يكون هناك طريق مفتوحة تضمن للإفريقيين النجاح في صراعهم ضد مبدأ تفوق البيض، فالتشريعات كانت قد أغلقت جميع السبل القانونية للأعراب عن معارضة هذا المبدأ، ووضعنا في مركز يحتّم علينا إمّا القبول بحالة دونية، أو تحدي الحكومة، فاخترنا تحدي القانون أولاً بطريقة تجنبت الالتجاء إلى العنف، وعندما لجأت الحكومة إلى عرض القوة بغية سحق المعارضة، عندها فقط قررنا أن نرد على العنف بالعنف."

هنا يبرر مانديلا لجوئهم للعنف بأنّهم مثل كل الثوريين لا يبدؤون صناعة العنف، إنّما السلطةُ من أجبرتهم على ذلك.

لأن الثورة انفجار مجتمعي، فلا يمكن تصوره غير عنيف، لذلك جميع التحولات الثورية في التاريخ اتسمت بالعنف بدءًا من الثورة الفرنسية والأمريكية والروسية إلى كوبا وغيرها، والتاريخ لا يعطينا مثالاً عن ثورة حقيقية لم تلجأ للعنف إلا على سبيل الاستثناء.

شرعية العنف الثوري  

 إن السلطة بعد لجوئها للقوة في وأد الثورة، يلجأ الثوار إلى دفع هذه القوة التي لا تُدفع إلا بالعنف المضاد ويشير ( Le Fur) إلى حق المقاومة هذا فيقول: "إن عدم الاعتراف بحق المقاومة، وحقّ الثورة للمواطنين لدرء الظلم الواقع عليهم، ينتهي بنا إلى التسليم باستبداد الحكومة، وعدِّه عملاً مشروعاً، ولا يجوز عقلاً قَبول هذا الوضع، والإذعان له، لأنّ الاستبداد يتنافى مع فكرة المشروعية، ونتيجة هذا الرأي فإنّ الثورة ضد الظلم والاستبداد، هي حقٌّ مشروع."

في حين يرى العميد (M. Hauriou) أن "الثورة في فعلها العنيف ضد حكومة مستبدة تشبه الأعذار المانعة من العقاب، لأن الدولة عندما تعجز عن حماية مواطنيها أو تسيء استعمال السلطة بحيث يجد الفرد نفسه محتاجاً إلى الحماية من طغيانها، ففي هذه الحالة يضطر الفرد إلى الدفاع عن نفسه وصون حقوقه والرجوع إلى حق القصاص القديم والقيام بإجراء ثوري لرد العدوان."

طبيعة الثورة تستلزم العنف

إن استعمال العنف يؤدي إلى توسيع نطاقه أفقياً وعمودياً. وكلّما ازداد العنف من الجانبين توسعت دائرته بصورة حلزونية، هذا التلازم بين الثورة والعنف دفع Chalmers Johnson للقول بأنّ الطريقة الوحيدة لفهم الثورة هي أن تُدرس كشكل من أشكال العنف، من خلال النظر لهذا التلازم يُعرّف الثورات البعض بأنّها "اضطرابات مدنية تتسم بالعنف، وتؤدي إلى إبدال جماعة قائمة بأخرى، تلقى دعماً شعبياً على نطاق واسع".

 وبالمعنى ذاته يربط Aaron بين الثورة والعنف بقوله: "إنّ كلمة ثورة في علم الاجتماع تعني إزالة نظام عن طريق القوة وإحلال آخر مكانه" وفي السياق ذاته يعرف Trotsky الثورة بأنها "تدخل عنيف تقوم به الجماهير في المجال الذي تتقرر فيه مصائرها."

 إنّ تعريف الثورة بالعنف الجماهيري ينطوي على الاقتراب مباشرة من القوة الفاعلة في الثورة، ومن طاقتها المحركة، فالعنف مؤشر على ردة فعل الجماهير تجاه الاضطهاد، الذي كانت تعاني منه.

حتى أولئك الذين تجاهلوا العنف في تعريف الثورة إنما فعلوا ذلك بتوجههم لغاية الثورة (التغيير) لا إلى وسيلتها (العنف).

طبيعة السلطة المستبدة

من الطبيعي أن تتضمن الثورة بعض العنف، لسبب بسيط هو أن السلطة الحاكمة لن تتنازل عن امتيازاتها وسلطتها بالطرق السلمية.

ولا نستطيع أن نقارن عنف السلطة بعنف الثورة، لأن الثاني رد فعل للأول، ومهما كان حجم العنف الذي تمارسه الثورة، فهو لا يساوي شيئاً إذا ما قُورن بالعنف الذي يمارس حتى تستمر السلطة المستبدة.

السلطة المستبدة قبل الثورة سدت جميع منافذ المشاركة السياسية، وأوصدت كل سبل التغيير، وقيدت جميع الحريات، ولم يبقَ للمواطن إلا خيار وحيد هو الثورة، بالتأكيد لن تسمح له أن يرى النور وتعمل بكل ما تملك من قوة على وأد الثورة المعادية لها.

لا يحتاج الثائر إلى كثير من الجهد لمعرفة كيف ستواجه سلطة الاستبداد الثوار، سواء راجع مواقف سابقة لها في قمع احتجاجات أدنى ممَّا تطلبه الثورة بكثير، أو قمع آراء نادت بأقل ممَّا تنادي به الثورة، لا ينتظر من سلطة الاستبداد التعامل المُعقْلَن مع الثورة إلا واهم.

ومما لا جدال فيه أن المجتمع الدولي لم يتخاذل عن نصرة الثورة السورية لأن العنف تخللها، بل لأسباب أخرى يعلمها الجميع وليس هنا موضعها.

أما لجهة انتصار الثورة لو بقي الحراك سلمياً، فإنها بالفعل بدأت سلمية، واستمرت لفترة زمنية لا بأس بها، ومع ذلك لم يكن هناك تغيير جذري على الأرض.

لكن رغم وجود مبررات العنف ودوافعه، إلا أنه يجب ألا ينحرف عن غايته وهي مواجهة عنف السلطة، ولا يتجاوز نطاقه المحدد بتحقيق الغاية، وهذا ما يُوجب علينا البحث في حدود العنف وضوابطه.