الأثنين 2019/05/20

هل تحتمل الحاضنة العلوية وصول المزيد من التوابيت؟

نظام الأسد طائفي علوي بامتياز، هذه مسلّمة لا يكاد يختلف عليها السوريون، هكذا أراده الأب المؤسس لهذا النظام، وهكذا سار عليه الولد الوريث، وهكذا قبلت به الطائفة، وقبلت بالامتيازات الممنوحة له على مستوى الدولة السورية في كل مناحيها العسكرية والأمنية، والوظائف العامة، والموارد والثروات الوطنية. كان النظام عبارة عن "مافيا طائفية" تتكون من عائلة الأسد، ورجال الأعمال المقربين منها، وكبار ضباط الجيش والاستخبارات، وقبل كل ذلك الهيمنة المطلقة على الحياة السياسية، والسلك الدبلوماسي، الذي كان محتكرا فعلياً لهذه المافيا، وإن كان ظاهرها السياسي مغطى بما يسمّى "حزب البعث"، أو ببعض الشخصيات السياسية والدبلوماسية التي لا تملك من أمرها، أو من قرارها شيئاً يُذكر.

نال بعض رجال الطائفة من المثقفين والعسكريين والنخب السياسية الأذى من هذا النظام بسبب معارضتهم له، وتعرضوا للسجن والتعذيب والقتل، بل كان النظام يصب جام غضبه عليهم ويعتبرهم خونة للطائفة في أقل بادرة نقد تصدر عنهم، وزرع في نفوس الطائفة أن عمل هذه المعارضة العلوية سيزيل الحكم العلوي، وأن هذا سيعود بالطائفة إلى أيام الاضطهاد المذهبي في سردية المظلومية من السنّة وخصوصاً في فترة الحكم العثماني للبلاد.

أعطى النظام الثورة التي بدأت عليه عام 2011 بُعداً طائفياً منذ أيامها الأولى لتحشيد الطائفة خلفه، وتخويفهم من ذهاب مكاسبهم وامتيازاته التي حصلوا عليها على مدار عقود خلت، وجعلها معركة وجودية للطائفة، وطالبهم بالدفاع عن عنه كنوع من العرفان بالجميل، والاعتراف بالفضل الذي أنقذهم من "الاضطهاد والبؤس والفقر"، وهذا ما كان بانحياز الطائفة بمجملها –إلا ما ندر-إلى جانب النظام، وصاروا أدوات الحرب والقتل والتعذيب والاغتصاب الأولى التي استخدمها النظام ضد الشعب الثائر عليه.

كان الثمن مئات آلاف الضحايا من الشعب السوري بين قتيل وجريح ومعتقل، إضافة إلى نحو ستة ملايين لاجئ فرّوا خارج البلاد، ومثلهم مشردون نازحون عن منازلهم ومدنهم بسبب القصف العشوائي والتدمير الوحشي، والإبادة الجماعية، واستخدام الأسلحة الكيماوية، وارتكاب أفظع انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب التي عرفها العصر الحديث.

لسنا بصدد الحديث بالمقابل عن خسائر الطائفة، من الصعب الحصول على إحصائيات رسمية حول ذلك، لكنها بلا شك هي الأخرى باهظة، مئة أو مئتا ألف أو أكثر أيضاً بين قتيل وجريح ومفقود، وآخرون فرّوا خارج البلاد لم يرغبوا بالمشاركة في هذه "المذبحة العظيمة"، ورغم أنه ثمن كبير، إلا أن الثمن التاريخي لموقف الطائفة سيكون هو الثمن الأكبر على الإطلاق، لن يُمحى من التاريخ ومن ذاكرة السوريين ما حدث لهم على سوريين مثلهم، مستعينين على إبادتهم والتنكيل بهم بقطعان وحشية طائفية مثلهم من لبنانيين وعراقيين وإيرانيين وباكستان وأفغان.

هدأت الحرب قليلاً، وأعلن النظام انتصاره على جبهات كثيرة، وظنّ الموالون أن اليوم الموعود قد جاء، وأنهم سينعمون بخيرات البلد بعد "التجانس" الذي تغنّى به رئيسهم، لكن توالي الأزمات الاقتصادية الخانقة كشفت المستور، وانكشفت لهم الخديعة التي انساقوا إليها، فلم يبق بلد ولا ثروات، ولا أمن ولا استقرار، الخراب يعمّ كل شيء، والبلد محتلٌ مَبيعٌ للروسي والإيراني.

الاحتجاجات والغضب والتذمّر من الوضع الجديد بلغت مداها في الأشهر الماضية، بطريقة أحرجت النظام كثيراً، حساسية فقدان ولاء الطائفة وانقلابها عليه يهدد وجوده هو هذه المرة، ولذا أراد إشغالهم وتخويفهم، والعودة إلى ابتزازهم بشعار "وحدة المصير" فشنّ حربه الأخيرة على إدلب، لكن الأمر وقع كالصاعقة عليه بالمقاومة الشرسة التي واجهها هناك، وعادت توابيت القتلى تصل إلى المدن والبلدات العلوية، والصور المنقولة عن الجنائز تُظهر حجم السخط والاستياء على النظام، يبدو أن القناعات تزداد أن كل هذه الخسائر كانت لأجل كرسي آل الأسد واستمرارهم في الحكم، وليس لأجل مصلحة الطائفة، ولذا ولأول مرة على مدار سنوات الحرب الثماني يتوسّل النظام لعقد هدنة لوقف إطلاق النار، وحين يرفضها الجيش الحر، يبادر هو إلى إعلان الالتزام بها من جانب واحد، فهو لا يتحمل ردود الفعل اتجاه وصول المزيد من التوابيت.

الجيش الحر لن يستجيب للهدنة، وسيتفادى الضغوط عليه، فهو يرى نفسه في موقف قتالي جيد، مقابل ضعف وانهيار في صفوف النظام، وفقدانه لحلفائه "البريّين" الذين كانوا يقاتلون إلى جانبه، فإيران مشغولة بنفسها، و"حزب الله" أصابه الإفلاس، والمرتزقة لا يجدون شيئاً ينهبونه، وليس لديهم إرادة القتال والموت، وسيغادرون البلد قريباً إلى مكان آخر "يرتزقون" منه وليس يموتون فيه.

رغم كل ما حصل، الطائفة أمام موقف تاريخي بإعلان فك ارتباطها بآل الأسد، وفتح حوار وتقارب مع باقي الشعب السوري، للتوصل إلى حل سياسي وإنهاء هذه الحرب العبثية، ثم إن الأيام القادمة ستكون كفيلة بمداواة الجراح والآلام والتعافي من هذه الحقبة المظلمة من تاريخ العيش المشترك الذي عرفته الحضارات المتعاقبة في سوريا. هل سيحدث ذلك؟