الأربعاء 2019/02/20

نصف السوريين صوّتوا بأقدامهم للأسد والنصف الثاني بدأ يتمرد عليه

التاريخ عنيد، يكتب الماضي الذي يعجز كلُّ أحدٍ عن تغييره، قدرٌ وقع ومضى كما يمضي الموت الذي لا تعود الحياة إلى صاحبه، نتحدث عن معضلة الديكتاتور مع التاريخ، الجغرافيا أقل من ذلك، يستطيعون أحياناً طمسها، وإزالة آثارها، ومحو تضاريسها من الوجود، حتى الخرائط تغيّر الجغرافيا، تظهر دول وتختفي أخرى على الخريطة، والذي يبقى من حضارات الأمم جغرافياً إنما هو حجارة وآثار بنوها بأيديهم، لكن التاريخ هو الذي ينبئ عن سلوكهم الإنساني العاقل.

يضطر الإنسان في زمن ما أن يخرج من الجغرافيا التي ينتمي إليها، يُطرد منها، لكن الإنسان لا يخرج من تاريخه.

خطة الأسد كانت إعدام الأماكن ومعاقبتها إلى جانب إعدام البشر الرافضين لحكمه ومعاقبتهم، كثير من المدن والقرى أبادها إبادة كاملة، وأزال معالمها، ولم تعد صالحة للسكن، ولم يعد بإمكان أهلها العودة إليها، ولو أُعيد إعمارها ستكون شيئاً مغايراً تماماً لما تركوه، وقد تكون بوجوه جديدة غريبة.

الأسد بسذاجته وجهله، وطبيعته العنصرية ظنّ أن إعدام الأماكن، وترحيل السوريين وإبعادهم سيخلّصه منهم إلى غير رجعة، ستبقى الباصات الخضر شاهدة على حماقة وغباء هذا النظام الذي حصر اهتمامه بالأرض فقط يريد إعلان سيادته عليها، ولو كانت خالية تماماً من أهلها.

نظريات التطهير العنصري التي عبّر عنها الأسد في خطاباته، وارتياحه للتجانس الجديد الحاصل في البلاد بعد أن تخلّص من معارضيه، يبدو أنها انقلبت عليه اليوم، فالنظام بنى استراتيجيته على تصدير الأزمة، ومحاولة إشعال الحرائق إقليميا ودوليا، بحيث يجبر العالم ولتفادي تهديدات "الأمن والسلم الدوليين" إلى القبول باستمرار النظام في حكم البلاد لتجنّب الفوضى، ولمعالجة أهم مشكلتين تسبّب بهما النظام عمداً: مشكلة اللاجئين، ومشكلة الإرهاب، وباقتراب نهاية الحرب على الإرهاب والانسحاب الأمريكي من سوريا بعد القضاء على آخر جيب لتنظيم الدولة شرق سوريا، فقد النظام ميزة مساومة المجتمع الدولي حولها، تبقى قضية اللاجئين التي هي الأخرى آخر أوراق مساومته، وهو يشترط لعودتهم إعادة تأهيله سياسيا ودبلوماسيا، ودعم اقتصاده المنهار عبر تمويل مشاريع إعادة الإعمار، والحل السياسي الوحيد في سوريا حسب مفهوم النظام "وحلفائه" هو عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، مع إدخال بعض الإصلاحات الدستورية الطفيفة التي تضمن بدورها "بقاء الأسد إلى الأبد" حسب الشعارات التي يرفعها شبيحته والموالون له.

لولا ربط تمويل إعادة الإعمار بشرط عودة اللاجئين، لما تطرّق النظام أصلاً لعودتهم، ولو كان في الحكومة اللبنانية الجديدة من يريد إعادة اللاجئين، فالنظام لن يقبل بذلك إذا لم يتم تحويل المساعدات الدولية التي كانت مخصصة لهم في لبنان إلى خزائنه، الأمر الذي لازالت الدول تمتنع عن الموافقة عليه ما لم يحدث انتقال سياسي في البلاد.

نصل إلى معضلة الأسد مع التصويت له في الانتخابات القادمة باعتبار أن الروس يرون أن من حقه خوضها، من سيصوّت له؟ نعم هو استعاد مساحات واسعة جداً من الأراضي التي فقدها سابقاً، لكنها خالية من سكانها، أي الأصوات التي يحتاجها ليكون رئيساً شرعياً، نصف سكان سوريا بين نازح ولاجئ يعيشون اليوم خارج هذه المناطق، والأسد الذي كان يرى أن النصف الثاني "المتجانس" كاف لمنحه هذه الشرعية، فوجئ قبل أيام بتصريح هزّ أركانه صدر عن الإدارة الأمريكية على لسان مبعوثها إلى سوريا "جيمس جيفري" في مؤتمر ميونيخ للأمن حين "اعتبر أن ممارسات الحكومة السورية، تبقى السبب الرئيس لتصويت نصف سكان سوريا بأقدامهم للابتعاد عن نظام الأسد".

إذن سيكون تصويت السوريين جميعا دون استثناء لنازح ولا للاجئ، هو التصويت المعتبر عند المجتمع الدولي ليكسب أي نظام في سوريا الشرعية في الانتخابات القادمة، يعلم السوريون جيداً أنهم ما داموا في مناطق نفوذ النظام فإنهم يفقدون حريتهم وخياراتهم، وأنه سيتم تزوير إرادتهم وإنْ خاطروا بحجب أصواتهم عن الأسد، وعليه لم تكن أعظم موجة نزوح ولجوء في العصر الحديث مجرد حركة هروب جماعي من الخوف فقط، بل هي رسالة السوريين للنظام أنه حين حرمهم من أبسط معاني الحرية والأمان ومقومات العيش الكريم، وحين حرمهم من بيوتهم وأملاكهم، فإنه بقي عندهم شيء أهم وأغلى، بقي عندهم أصواتهم التي يملكونها، وهي التي فرّوا بها كي لا يصادرها النظام ويستولي عليها كما استولى على أملاكهم، هذه الأصوات التي لن يستطيع النظام الوصول إليها بشكل من الأشكال، السوريون فضّلوا الموت مع أطفالهم في البحار والغابات والصحارى التي قطعوها في هجرتهم على البقاء تحت حكم الأسد، التاريخ العنيد هنا يأبى التزوير، تزوير التصويت عنهم بمثابة تصويت الأموات.

إذن هكذا صوّت السوريون مسبقاً بأقدامهم للأسد، وهي العقوبة والصدمة الكبرى التي بدأ النظام يستشعرها، وهي التي وضعت الأسد في ذلك الوضع الهستيري في خطابه قبل ثلاثة أيام أمام المجالس المحلية "المنتخبة".

نصف سكان سوريا صوّتوا مسبقاً ضد الأسد بأقدامهم، والنصف الثاني بدأ يسير على خطا النصف الأول بالتمرد على الأسد، هذا ما يواجهه الديكتاتور اليوم!