الأثنين 2018/11/19

متى يحين إعلان “الدولة الكردية” شمال سوريا؟

تقترب اللحظة التاريخية لنشوء الدولة الكردية الأبدية كما لم تكن أقرب منها في يوم من الأيام، بعد 100 عام تقريباً على إعلان أول دولة كردية تبعها خمس محاولات مُنيت بالفشل الذريع جميعُها، فمن دولة كردستان حسب اتفاقية سيفر، إلى مملكة كردستان بقيادة البرزنجي، ليتبعها جمهورية كردستان الحمراء "السوفييتية"، ثم جمهورية آرارات الكردية المستقلة، لتأتي جمهورية "مهاباد" بقيادة البرزاني الأب آخر محاولات القرن العشرين، ثم ليكرر البرزاني الابن المحاولة في القرن الحادي والعشرين في إقليم "كردستان العراق"، لكن الأمور مختلفة اليوم، الظروف مهيّأة تماماً لولادة دولة كردية حقيقية قابلة للاستمرار على قيد الحياة، فهي تملك مقومات الدولة  لأول مرة فيما كانت تفتقد ذلك في تجاربها السابقة، فالقوة العسكرية والأمنية في أفضل حالاتها، والثروات الطبيعية من النفط والغاز والمياه والزراعة تؤهل "الدولة الكردية" لتكون من مصافّ الدول المتقدمة اقتصادياً، وهياكل الخدمات الحكومية المدنية تم استكمالها وهي تقدم الخدمات الحياتية اليومية من مياه وكهرباء واتصالات وتعليم وصحة بشكل جيد الآن، ودستور "روج آفا" تم التوافق عليه، والدولة المركزية في دمشق انهارت بطريقة لا رجعة فيها، والدولة ستقوم فوق أراضٍ تاريخية كردية لا ينازع فيها أحد، وقبل ذلك كله "التفاف الشعب الكردي حول القيادة الجديدة" التي لا تضم في صفوفها أحداً من أصحاب التجارب الكردية الفاشلة وخصوصاً البرزانيين، وأخيراً الدعم الأمريكي اللامحدود الذي لم يتوقف على مدار الأعوام الماضية، وفرصة ارتدادات "الربيع العربي" قد لا تتكرر، فالمنطقة كلها تمر بحالة عدم توازن بين انشغال بمشاكلها الداخلية أو فيما بين بعضها، من إيران إلى تركيا إلى العراق والأردن ولبنان ومصر ودول الخليج العربي، سيكون هذا المُناخَ الأمثل لظهور دولة جديدة في المنطقة، ولا يستطيع أعداؤها اتخاذ موقف موحد ضدها.

إذا أراد أحد أن يعرّف الوهم السياسي، فبإمكانه أن يأخذه مما سبق، فالمغالطات المطلوب تصديقها خرجت عن حيّز المنطق العقلي، إلى ضرب من الحماقة، لنقل هي وَصفة متكاملة للغباء السياسي.

لنثبّت أولاً حجر الأساس الذي ستنبثق عنه الدولة الكردية شمال سوريا، مجلس سوريا الديمقراطية، قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، ميليشيا ب ي د، قوات حماية الشعب، مهما تغيّرت التسميات تعود كلها إلى مسمى واحد هو حزب العمال الكردستاني المسلح ب ك ك، المصنف على قوائم الإرهاب في تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي.

السؤال الآن: ما هي موانع قيام الدولة الكردية شمال سوريا؟

الأمر الأول: بدايةً هل ستساعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بظهور دولة "إرهابية" حسب تصنيفهم هم؟

وباعتراف المبعوث الأمريكي "جيمس جيفري" الأخير أن مليشيا"ب ي د"  امتداد وفروع وذراع لحزب العمال الكردستاني، لم يعد ممكناً نزع هذه الصفة عنهم إلا بإعلانهم الصريح فك ارتباطهم بالتنظيم الأم، وهو أمر مستحيل، فقادة هذه الفروع السورية هم أنفسهم يُعتبرون من رموز حزب العمال الكردستاني.

لماذا تصر ميلشيا "ب ي د" على وضع كلمة "الديمقراطية" في التشكيلات التي تنشئها؟

يعلم الأكراد جيداً أن الدول الغربية أشد الدول عداءً لقيام دولة كردية في المنطقة، وتختلف العداوة بين المسحة الدينية السنّية التي تغلب عليها في تجاربها الأولى، وبين الصبغة الماركسية التي تطغى عليها الآن، وهي في كلتا الحالتين لا تنتج نظاماً ديمقراطياً حسب المفهوم الغربي، وقد أكدت ممارسات آخر تجربة فاشلة في إقليم كردستان العراق هذه النظرة الغربية، حيث الحكم هناك يفتقر لأبسط معايير الديمقراطية والشفافية، ومنظومة الحكم باعتراف الأكراد قبل غيرهم  هي حالة عصابة مافياوية ركّزت السلطة والثروة بيد البرزاني وعائلته والمقربين منهم، يكفي وجود اسم مسرور بن مسعود البرزاني، ونيجيرفان البرزاني والصلاحيات التي يمتلكانِها للتدليل على ذلك.

الأمر الثاني: لطالما كان نشوء دولة كردية مترافقاً بدعم خارجي ضمن تصفية حسابات سياسية بين أطراف دولية أو مكافأة للأكراد على وقوفهم إلى جانب طرف في صراعه ضد طرف آخر، فعلت ذلك بريطانيا ومثلها فعل الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، لكن دائماً ما كانت الجهة الخارجية التي تدعم قيام الدولة الكردية تكون هي البادئة بسحب الغطاء عنها مؤذنة بانهيارها، والأكراد اليوم يكررون نفس الأمر، يعتقدون أن الخدمات التي قدموها للجيش الأمريكي في قتال تنظيم الدولة عوضاً عنهم كافية ليمنحهم الأمريكيون دولة كردية شمال سوريا، لا أحد يفكر بهذه الطريقة غير الأكراد، هم في المفهوم الأمريكي مجموعة مرتزقة مأجورين مثل "بلاك ووتر" التي استخدمتها في العراق، أو "فاغنر"  التي استأجرتها روسيا في سوريا، أو كل المجموعات الشيعية التي تنفق عليها إيران، فكما لا تفكر واحدة من هذه المجموعات أن يتم مكافأتها بدولة على الأرض التي تقاتل عليها، كان على الأكراد أن يفهموا أن مكافأتهم لن تصل إلى منحهم دولة بحال من الأحوال ما دام هذا سيؤثر على مصالحها القومية، ويخرب علاقاتها مع تركيا الدولة القوية والعضو في حلف الناتو، أو يكون عاملاً يتسبب بظهور طور جديد من "الإرهاب" كما حدث في العراق حين تم تسليم السلطة للشيعة على حساب العراقيين السنّة.

إذن يجب أن يعترف الأكراد بحقيقة أنهم لا يملكون أي قوة عسكرية في سوريا حال تفاهمت واشنطن مع أنقرة، وسحبت الأولى قواتها من هناك، سيواجه الأكراد مصيراً قاتماً كما حدث في عفرين، بل سيجدون أنفسهم في مواجهات مفتوحة مع القبائل العربية التي مارسوا بحقها العديد من الانتهاكات والتي تصل إلى درجة وصفها بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تجعل قادة المليشيات الكردية المسلحة وقياداتهم السياسية عرضة للملاحقات الدولية.

الأمر الثالث: على الصعيد الخدمي والحكم المحلي أثبت الأكراد فشلاً هائلاً في إدارة المنطقة، فلا استقرار ولا نمو اقتصادياً، ورغم وجود معظم ثروات البلاد تحت أيديهم إلا أن ذلك لم يترجم في حياة السكان، وما من فرص عمل مدنية، ولا خدمات مياه أو كهرباء أو صحة تقدّم بالحد الأدنى، واهتمامهم بالتعليم أثار النقمة عليهم بدل كسب الناس بفرضهم مناهج التعليم "الأوجلاني" وإغلاق مدارس المكونات غير الكردية مثل الآشورية، تحت ذرائع شتى، وبلغت النقمة عليهم مداها حتى من الأكراد بفرض التجنيد الإجباري على الشباب والأطفال ليقاتلوا في صفوف مليشياتهم ، بمعنى آخر: الاقتصاد في مناطقهم كالحالة العسكرية قائم على المساعدات الخارجية، وهذه لو توقفت ستترافق بانهيار وتوقف كامل للخدمات الضرورية الحيوية.

الأمر الرابع: في كل المرات السابقة كانت الدولة الكردية تُعلن على أراضي يزعم الأكراد أنها تاريخياً أراضٍ كردية، هذه المرة هم أمام معضلة حقيقية، لم يتحدثوا يوماً أن تاريخهم يصل إلى ضفاف الفرات، ويعلمون جيداً أنهم توغلوا في عمق الأراضي العربية الصرفة، هم لم يستطيعوا إقناع أحد بأراضٍ كردية في سوريا، التاريخ والجغرافيا والإحصائيات السكانية عصيّة على تزويرهم وتأبى الخضوع لهم، وهم كانوا يزعمون أن عرب الغمر -القرى التي غمرت بسبب سد الفرات- غزوا مناطقهم، لكنهم اليوم يحتلون قرى هؤلاء العرب.

الدولة الكردية في شمال سوريا ذهبت بعيداً خارج الحدود التي كان الأكراد يطالبون بها، ولا يخفى الانقسام الحاد داخل الأكراد أنفسهم في هذه القضية حيث يعترفون أن الولايات المتحدة أجبرتهم على الوصول إليها لقتال تنظيم الدولة، وأنها مناطق عربية أصيلة لن يتمكنوا من الاستقرار فيها ولو تحت وطأة السلاح، ستبقى أراضي مغتصبة ومحتلة، وسيبقى أهلها يقاتلون الأكراد حتى يطردوهم منها.

إذن لا دولة كردية في شمال سوريا لا قريباً ولا بعيداً لجناح حزب العمال الكردستاني، أما الجناح الثاني في سوريا والتابع للبرزاني فهو لا يملك من المقومات السابقة شيئاً يُذكر، أمله فقط أن يأذن له حزب العمال الكردستاني بمشاركته في مشروعه الفاشل، وعلى أكراد سوريا أن ينبذوا هؤلاء السياسيين الانتهازيين جميعاً، الذين يدقّون أسافين الكراهية بين الأكراد وباقي مكونات المنطقة، همّهم الوحيد الوصول إلى السلطة والإثراء عبرها، تاركين أبناء جلدتهم يعانون الأزمات الاقتصادية المتكررة، وما مثال كردستان العراق ببعيد.