الجمعة 2018/12/21

قرار ترامب بالانسحاب من سوريا يوقف السباق عليها لا العكس! .. كيف؟


الجسر للدراسات...


سيل من التحليلات لقرار الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" سحب قوات بلاده من شمال شرق سوريا، وعودة الجنود الأمريكيين إلى الوطن في أسرع وقت ممكن، جرى تحديده لاحقاً بمدة أقصاها مئة يوم.

التحليلات تقريباً كانت تصب في أن القرار فتح الباب على مصراعيه للسباق على سوريا، وبالأخص على المنطقة الشمالية الشرقية منها الغنية بالنفط والغاز وباقي الثروات والموارد الطبيعية، وخاصة من طرف النظام وداعميه الروس والإيرانيين والميليشيات الشيعية الطائفية، هذا من جانب، ومن جانب آخر تتحدث التحليلات عن تأهب القوات التركية لدخول المنطقة أو على الأقل السيطرة على كامل الشريط على حدودها الجنوبية لإبعاد المليشيات الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني، وعلى الجانب الثالث سيقتنص تنظيم الدولة هذه الفرصة للملمة صفوفه، واستعادة السيطرة على المناطق التي فقدها بسبب هجمات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وشركائها على الأرض ميليشيا ب ي د الكردية.

هذا هو المشهد الذي ترجحه التحليلات وهو بلا شك أحد الاحتمالات القوية لمستقبل الأحداث القريبة التي ستقع، لكن رغم اعتياد العالم اليوم على قرارات تبدو مفاجئة من ترامب، إلا أن ترامب غالباً ما يرد بأن قراراته ليست كذلك، ويدلل من تصريحات سابقة له أن الأمور كانت تسير باتجاه هذه القرارات، والمفاجأة تقتصر على التوقيت وسياق إعلانها.

إذن قرارات ترامب ليست شخصية، وهذا هو المعهود في القضايا التي تمس عقيدة وثوابت السياسات الأمريكية التي لا تتغير بتغير الإدارة التي تحكم البلاد، ومن ذلك ما ذكره السفير "جيمس جيفري" في لقائه في المجلس الأطلسي قبل خمسة أيام أنّ استراتيجية الأمن القومي تذكر في مقدمتها أنّ "الدول الاستبدادية عازمة على أن تحل محل الولايات المتحدة حيث تسحب الولايات المتحدة دبلوماسييها وتغلق مواقعهم." وتتابع استراتيجية الدفاع الوطني القول: "باتت المنافسة الاستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، الشاغل الرئيسي للولايات المتحدة في مجال الأمن القومي." وتواصل: "بات من الواضح بشكل متزايد أن الصين وروسيا تريدان تشكيل عالم يتناسب مع نموذجهما الاستبدادي."

وخلص جيفري إلى القول: "أنتم تعلمون أن هذا هو العنصر المهم الذي يجب النظر إليه، لأن البقية مجرد إضافات على كل برنامج نقوم به في أي مكان في العالم بغضّ النظر عن الإدارة التي تضعه، إلا أن العناصر الأولية تشير بالفعل إلى موقف الإدارة وهذه الإدارة قد توصلت إلى استنتاج مفاده أن التنافس بين الدول مع منافسين أقران أمر مهم بحق، وعلينا التعامل معها".

إذن ثوابت السياسة الأمريكية عدم ترك فراغ للروس في سوريا، فمع ازدحام اللاعبين الخارجيين في هذه الأزمة إلا أن روسيا فقط تعدّ من الأقران الذين يمكن لهم منافسة الولايات المتحدة، وبالتالي فلا بد أن القرار الأمريكي بُني بطريقة تمنع روسيا حتى من التفكير بملء الفراغ الذي سيخلقه الانسحاب الأمريكي بسبب التبعات التي لا تستطيع تحمل تكاليفها لا سياسيا ولا عسكرياً ولا اقتصاديا، ومن باب أولى سيحذو باقي اللاعبين حذو الموقف الروسي.

إذن ترامب حين رأى هذا التزاحم في المنطقة الشرقية بالذات والتباين الكبير في مصالح المتدخلين فعليا، والمتأهبين للتدخل، وفيهم حلفاؤه وأعداؤه على حد سواء، أراد إيقاف هذا السباق على المنطقة بالتهديد لتحويلها إلى ساحة لا تصلح للعب مطلقاً، بل تجعل جميع اللاعبين يفكرون بمغادرتها في أسرع وقت، كيف؟

التهديد بتحويل سوريا إلى دولة فاشلة!!

نعود إلى لقاء السفير جيفري في المجلس الأطلسي، يقول جيفري "في التسعينات، تم حظر هذا النوع من التفكير وكنا نحرص بشدة على أساسيات ألا يكون البلد منبوذاً سياسياً أو معدماً ومختلاً وظيفياً من الناحية الاقتصادية. ولكن إذا وضع بلد ما نفسه على الجانب الآخر من هذا النظام ليتواجد في بيئة الصراع، وهذا ما تتوقعه هذه الوثائق ولأسباب وجيهة لأنني أعتقد أنها تعكس الواقع" إذن جيفري يرى هنا أن الأسد هو الذي يذهب بنظامه إلى هذا الموضع المنبوذ سياسياً، والمختل وظيفياً واقتصادياً، مع أن الولايات المتحدة تحرص على عدم وجود أنظمة من هذا النوع، بل وتساعد في عدم تحول أي نظام إليه مهما كان سيئاً، لما له من تداعيات خطيرة على الأمن الدولي. بل ما زالت الولايات المتحدة تتهم بدعم بعض النظم الاستبدادية حول العالم، وهو صحيح لكن يبدو أنه يستند إلى هذه السياسة الأمريكية التي ترى أن الضرر سيبقى أقل دائماً من المخاطر التي تتسبب بها فوضى ناجمة عن دولة فاشلة، لكن إصرار بعض الأنظمة على التموضع في هذه الزاوية يستدعي تلقينها ومن يقف إلى جانبها درساً قاسياً، وهذا ما سيحدث في سوريا.

الأسد الضعيف أقل ضرراً من الأسد القوي

يرى جيفري "أن يكون الأسد الآن ضعيفاً جداً" أقل ضرراً من أن يكون بكامل قوته التي كان عليها قبيل بدء الحرب، "فمعظم من يريد أن يلحق الضرر بهم قد هربوا. لا قدرة لديه حالياً على الاستيلاء على المزيد من الأراضي في بلاده، ناهيك عن تهديد جيرانه. عليه أن يعتمد بشكل كلي على الروس والإيرانيين وسنرى مدى استعدادهم للانغماس أكثر في هذا الوضع، إذن لا يعد ذلك انتصاراً، ولكنه أفضل من الأسد السليم مع 20 مليون شخص وثلاثة أرباع مليون من القوات المسلحة بمعدات روسية حديثة تتعاون مع الروس والإيرانيين في محاولة لتغيير الوضع الأمني في المنطقة برمتها".

عودة الحياة الطبيعية بشروطنا لا بشروط الأسد

أفشل النظام أقل مداخل الحل السياسي في البلاد عبر وضع شروط تعجيزية على تشكيل اللجنة الدستورية، والتي تعني بشكل آخر رفضه لهذه اللجنة وللحل السياسي بشكل كامل، وإصراره على المضي في الحل العسكري الذي انتهجه طيلة الأعوام الماضية، وحين تطرق جيفري للتغيير المطلوب حسب القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، والذي يتيح عودة اللاجئين إلى بلادهم، ويتيح لمن بقي من الشعب السوري بعد نصف مليون قتيل العودة إلى حياة طبيعية حسب رأيه، عقّب على ذلك بالقول: "ولكن لا نستطيع تحقيق ذلك بشروطنا.

لا يمكن تحقيق ذلك إلا بشروط الأسد، وهذا مريع وعلينا الالتفاف حول شروط الأسد. إذا كانت هذه هي استراتيجيته، أعتقد أنه سيتعين عليه الانتظار لفترة طويلة جداً".

الآن بعد قرار ترامب الانسحاب من سوريا جميع الدول التي كانت تساوم الولايات المتحدة على حل المشكلة السورية مقابل مكاسب أو تنازلات تحصل عليها من الولايات المتحدة، مثل ملفات روسيا في أوكرانيا والقرم، والاتفاق النووي مع إيران وحجم نفوذها في الشرق الأوسط، وكذلك العلاقات الثنائية التركية الأمريكية، وأنها ما تحصل على هذه المكاسب أو التنازلات فإنها ستتسبب ببعض المضايقات للجنود الأمريكيين المنتشرين في سوريا.

ترامب الذي يرى أنه أنفق الكثير من الأموال في سوريا، إن كان في الحرب على الإرهاب، أو في المساعدات الإنسانية، يرى أيضاً أنه لا بدّ للدول التي تزعم أن لها مصالح في سوريا أن تتولّى هي ذلك بنفسها، ثم سيتبين لها كم هي مكاسبها الحقيقية مقابل الخسائر التي ستُمنى بها، هذا سيكبح جماح هذه الدول في السباق على منطقة أو دولة لن يحصلوا على شيء من الولايات المتحدة مقابلها، كذلك لن تعوّض لهم الخسائر الهائلة التي سيتكبّدونها هناك، وبعدم وجود الاهتمام الدولي

وعلى رأسه الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ودول الخليج العربي، فلن يكون هناك عملية إعادة إعمار إلا في حال حدوث انتقال سياسي حقيقي في سوريا، وأن الدول المتنافسة على سوريا ستجد نفسها في مأزق وفي مستنقع يصعب عليها الخروج منه، في يوم ما ستتسابق هذه الدول على الفرار من بلد تعمّه "الفوضى والخراب"، وحينها يمكن التفاوض حول عملية سلام مستدامة لا تخضع لشروط الأسد أو لشروط هذه الدول بشكل صحيح.