الثلاثاء 2019/07/30

الهجرة القسرية بين العنف المناخي والعنف السياسي!


مركز الجسر للدراسات...


عالم الحيوان بكامله ليس فيه هجرة طوعية، لا الأسماك والسلاحف والحيتان، ولا الحشرات والطيور والحيوانات البرية تترك موطنها وتهاجر إلى غيره، إلا بسبب ظروف قهرية تجبرها على هذا "التحرّك القسري" لفترة من الزمن بدافع البقاء على قيد الحياة، على أمل أن تعود إليه حال عودة الظروف الملائمة للمعيشة فيها، ولولا ظاهرة الهجرة هذه لانقرضت معظم أنواع عالم الحيوان إن لم يكن كلها.

ميزة عالم الحيوان أن المهاجرين لا يخضعون لقوانين الحدود بين الدول، ولا ينتمون لجنسية واحدة منها، فالهجرة من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الشمال، والمهاجرون يدركون أخطار الطريق التي تتربص بهم، لذا وبعناية فائقة حسب التجارب التاريخية الموروثة من أسلافهم يختارون أكثرها أمناً، لكنهم يواجهون أحياناً وحوشاً مفترسة تعترض طريقهم، تماسيح الأنهار، وحيتان البحار، والذئاب والضباع والكلاب البرية في الغابات والقفار، ويحاولون تعديل طرق سيرهم لتجنبها، لكن في النهاية يقع بعضهم وخصوصاً الضعيف منهم ضحية وفريسة لهذه الوحوش الضارية.

الهجرة في عالم الإنسان شبيهة بالهجرة في عالم الحيوان، الدافع الرئيسي لها تغيّر الظروف المحيطة بالإنسان بحيث تهدد بقاءه على قيد الحياة فيضطر لترك وطنه "بحركة قسرية" أيضاً، بانتظار عودة الظروف الملائمة لمعيشته ليعود إليها، كما هي شبيهة بالمخاطر التي يتعرض لها المهاجرون فيقعون ضحية لتجار البشر المتوحشين، وللمتطرفين اليمينيين، والقوميين المتعصبين الذين يكرهون هؤلاء المهاجرين.

من الطريف أن يظهر الآن مصطلح "المهاجرين البيئيين" أو "المهاجرين المناخيين" وتبدأ "مفوضية شؤون اللاجئين" بالبحث مع المجتمع الدولي عن قوانين الحماية والتشريعات الخاصة بهم، لمنحهم صفة اللاجئين وحقوقهم، فهم يشكّلون حسب تقدير بعض الدراسات ثلث عدد المهاجرين حول العالم، يجبرهم على التحرك أحداث الطقس المفاجئة كالزلازل والفيضانات وحرائق الغابات والأعاصير، أو أحداث التغير المناخي البطيئة مثل التصحّر وتغيّر أنماط المطر الذي يؤدي إلى حدوث التدهور الزراعي والثروة الحيوانية، وندرة الغذاء والماء، أو ارتفاع مستوى سطح البحر وبدء غرق جزر في المحيطات، واختفاء أخرى بالكامل، واضطرار سكانها إلى إخلائها.

إذن سيجد العالم نفسه في موقف صعب وهو يقف حائراً حيال إيجاد قوانين جديدة لهؤلاء الفارّين قسرياً من "العنف المناخي" ليندرجوا تحت قوانين الفارّين قسرياً من "العنف السياسي" المولّد لأعظم لصراعات الأهلية، وكبرى الأزمات الإنسانية، الصعوبة تكمن في هذا الصعود لليمين المتطرف والتعصب القومي، الذي يرفض تطبيق القوانين والاتفاقيات الدولية الخاصة باللاجئين بدءاً من اتفاقية جنيف 1951 إلى يومنا هذا، ويضغط على حكومات بلاده لتغيير تلك القوانين، والخروج من الاتفاقيات الدولية الموقّعة، أو استصدار تشريعات وطنية تغلق الأبواب في وجوه اللاجئين، وتضيّق الخناق على الموجودين منهم فعلياً على أراضيها، في قضايا منعهم من العمل والتعليم والصحة ووثائق الإقامة وحرية التنقّل، في سبيل دفعهم إلى المغادرة "طوعياً"، والتحريض عليهم ونشر الكراهية تجاههم والمطالبة بترحيلهم ولو قسرياً، واستخدام أحزاب المعارضة قضية اللاجئين سياسياً في سبيل الوصول للسلطة، وجعل التهديد بإعادة اللاجئين إلى بلادهم جزءاً كبيراً من وعودهم الانتخابية.

ظاهرة الهجرة على وجه الأرض ظاهرة كونية، طبيعياً حتى النباتات تهاجر حين تنتقل بذورها مئات وآلاف الكيلومترات لتنمو في بيئات جديدة، وهي في البشر كذلك تكاد تكون ظاهرة كونية لأسباب عديدة منها المناخية التي مرت فيما سبق، وهي ما يمكن معالجة معظم آثارها بالبرامج والمشاريع التنموية والاقتصادية، ومنها بسبب الصراعات البشرية العرقية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، لكن يبقى الاستبداد السياسي من قبل السلطات الحاكمة وممارسة العنف وانتهاكات حقوق الإنسان والقتل، هو العامل الأول المؤجّج للصراعات البشرية، ولأجل عدم نشوب حرب عالمية ثالثة أُنشئت الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لمنع ظهور حكام أمثال هتلر، وأنظمة حكم مثل النازية، تسببت بقتل وتهجير عشرات الملايين من البشر، ووضعت "الفصل السابع" من بين مهامها لتتمكن من التدخل العسكري ضد الأشخاص والدول التي تهدد السلم والأمن الدوليين، وهنا يظهر الفارق الحقيقي بين الهجرات البشرية والحيوانية بسبب الظروف البيئية، وبين الهجرات "السياسية" بسبب الاستبداد والحكم الديكتاتوري، فالأمم المتحدة يُفترض أنها وضعت القوانين الكافية لردع هؤلاء ومحاسبتهم، واليوم حكام أمثال "بشار الأسد" الذي تسبب لوحده بتهجير أكثر من عشرة ملايين سوري، نصفهم صار من اللاجئين، لا بد من تطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة على نظامه لوقف هذه الكارثة الإنسانية الأوسع على الإطلاق بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت دافع تأسيس الأمم المتحدة، وإلا فستكون الفرصة سانحة لحكام آخرين في المنطقة وغيرها ليمارسوا على شعوبهم نفس ما فعله الأسد مع الشعب السوري، ويتسببوا بموجات هائلة من الهجرات البشرية، التي ستجعل المجتمع الدولي يندم على تراخيه في التدخل في وقت لا ينفع فيه الندم.