السبت 2020/07/25

الثورة السورية، وأثرها على المنظومة القانونية

قد يتحول القانون من وسيلة لتنظيم سلوك الناس وتحقيق مصالحهم إلى أداة بطش وقهر في يد الحكام، يستخدمونه لبلوغ أهدافهم الخاصة المُتمثِّلة في تكريس الجاه وتكديس المال، فيشعر الناس بالظلم ويحاولون الإصلاح، فتُوصَد في وجههم الأبواب، ولا يجدون أمامهم إلا الثورة والعصيان لإسقاط أنظمة الحكم الفاسدة.وقد يتمثل الظلم في مخالفة قواعد القانون الوضعي، وهنا تكون الثورة مشروعةً للدفاع عن القانون المُنتهَك الذي كان ينبغي أن يُحتَرم، لكن الظلم قد يتجسد في انتهاك مبادئ الحق والعدل وقواعد الإنصاف بواسطة قواعد قانونية وضعها الحاكم لتحقيق رغباته وشطحاته على حساب مصالح الشعب وطموحاته، وهنا لا تكون الثورة مشروعةً القيام ضد قواعد قانونية قائمة، لكنها تكون شرعيةً للدفاع عن مبادئ الحق والعدل التي أهدرتها هذه القواعد، وانتصارًا لأصول القانون الطبيعي وما ينبغي أن يكون عليه القانون، وإحقاقًا للحق وطلبًا للعدل.وتُعدُّ الثورة السورية وفق ما ذكرنا ثورةً شرعية ومشروعة؛ لأن القوانين الظالمة في سورية تأخذ الشكلين السابقين، فهناك قواعد قانونية تمَّت مخالفتها لمصلحة أبناء السلطة، وشرعيةً لقيامها ضد ظلم الحكَّام المُتمثِّل في انتهاك مبادئ الحق والعدل التي كان ينبغي أن تسود وتتجلى هذه الظاهرة في القواعد القانونية الناظمة للحق والحريات.هنا يبرز التساؤل عن كيفية الخلاص من الظلم وأداته القواعد القانونية التي ظلمت الناس، هل تسقط مجرد إعلان الثورة؟ أم عند نجاحها؟ أم تحتاج إجراءات لإعلان تغييرها واستبدالها بقواعد قانونية أكثر عدالة وملاءمة لحقوق الناس وحرياتهم؟ هذا ما يدفعنا للتعرف على أثر الثورة على القواعد القانونية السابقة.

القوانين العادية وأنواعها:

من المتعارف عليه أن هناك نوعين من القوانين، القوانين الأساسية والقوانين العادية.تعرف القوانين الأساسية، بأنها قواعد قانونية عادية صادرة عن المُشرِّع العادي (السلطة التشريعية) وتنظم مسائل دستورية بطبيعتها أو في جوهرها.أما القوانين العادية فهي التي تُعالج قوانين تخص حياة الناس دون أن تكون ذات محتوى دستوري.أثر الثورة على القوانين الأساسية:القوانين الأساسية هي التي تصدر لمعالجة موضوع دستوري سواء بتكليف من المشرع الدستوري أو دون ذلك.لمَّا كانت القوانين الأساسية تعالج موضوعات دستورية وتخدم الفكرة السياسية التي يقوم عليها الدستور، فمن المنطق أن تسقط هذه القوانين بسقوط الدستور وإلغائه من قِبل الثورة، أما إذا قرر قادة الثورة استمرار العمل بالدستور مع إجراء تغيير فيه بما يخدم فلسفتهم الجديدة، فإن التغيير لا بد أن يشمل القوانين الأساسية أيضًا.

القوانين الأساسية في الدستور السوري لعام 2012:

لقد عمد الدستور السوري إلى تفويض المُشرِّع العادي تفويضًا مطلقًا، خاصة في مجال الحقوق والحريات، إذ عمد إلى سياسية منح الحرية بالنص الدستوري، ومنعها بالنص التشريعي، فجاءت القوانين الأساسية لترسم القيود وتحدد الضوابط لتصل في نهاية الأمر إلى إلغاء الحرية التي منحها الدستور.ونستطيع ببعض الأمثلة إيضاح مفهوم القانون الأساسي، وتوضيح استثمار المُشرِّع السوري لتقييد الحق.

القوانين الأساسية المنظمة للحقوق والحريات:

عالج المُشرِّع الدستوري الحقوق والحريات بالفصل الأول من الباب الثاني بالمواد (33-49)، والجامع المشترك بين جميع نصوص الحقوق والحريات، تفويض المُشرِّع العادي بتنظيمها.نصَّ الدستور السوري على حرية الإعلام بالمادة (43) منه، وبالنص ذاته فوَّض المُشرِّع العادي لتنظيم حرية الإعلام، فأصدر المُشرعِّ العادي قانون الإعلام رقم 108 لعام 2011 الذي عمل على ربط الإعلام بوزارة الإعلام، وتوسع في القيود، وبالغ بشروط الترخيص، لتهيمن وزارة الإعلام على كافة وسائل الإعلام الخاصة والعامة، إذًا الدستور منح حرية الإعلام والمُشرِّع منعها.كذلك عمد الدستور إلى منح المواطنين حق الاجتماع والتظاهر والإضراب عن العمل بالمادة (44) منه، وبنهايتها فوض المُشرِّع العادي لتنظيم تلك الحقوق.ليصدر قانون التظاهر بالمرسوم التشريعي رقم 54 تاريخ 21/4/2011 الذي وضع من القيود والشروط ما يجعل هناك استحالة مطلقة لقيام مظاهرة، وهذا ما يؤكده الواقع، إذ لم تمنح وزارة الداخلية أي ترخيص لأي مظاهرة مناوئة لسلطة الحكم.وكذلك نصَّ الدستور على حق المشاركة السياسية وتأسيس الأحزاب بمادة (8) منه، وبالفقرة الثالثة من المادة ذاتها فوض المُشرِّع العادي بتنظيم آلية المشاركة السياسية.ليصدر قانون الأحزاب بالمرسوم التشريعي رقم 100 تاريخ 3/8/ 2011 وتعليماته التنفيذية، لتشكل قيود حقيقية على تشكيل أحزاب معارضة بشكل حقيقي وليس ديكوراً شكلياً.ولا تنسى السلطات المُستبِدة طبعًا إصدار قوانين لتحديد مفهوم الأمن وفق مصلحتها وهواها، وحتى تحمي نفسها من أي حالة معارضة أصدرت مثلاً قانون مناهضة أهداف الثورة رقم 6 لعام 1964 الذي يعاقب بالإعدام كل من يخالف أهداف انقلاب البعث، ولم تكتفِ بذلك، بل أصدرت قانون أمن "حزب البعث العربي الاشتراكي" الذي صدر بتاريخ 1/1/1970 بالقانون رقم 53 ولم ينشر لغاية عام 1979 وهو ما يدعو للغرابة.ومن الطبيعي في ظل مجموعة من القوانين الاستثنائية أن تكون هناك منظومة قانونية فاسدة تحمي الأجهزة الأمنية ذراع الاستبداد القوي، فأصدرت المرسوم التشريعي رقم 14 تاريخ 15/12/1968 قانون إحداث إدارة أمن الدولة، الذي نصَّ على عدم ملاحقة عناصر أمن الدولة وضباطها بدون موافقة مسبقة من رئيس الإدارة.وغيرها من القوانين والمراسيم التشريعية التي لا يتسع المقال لذكرها.

آلية تعامل الثورة مع القوانين المناهضة لحقوق الإنسان والحريات العامة:

ممَّا لا شك فيه أن الثورة السورية تمر بمرحلتين مختلفتين:

المرحلة الأولى قبل الانتصار، والأخرى بعده.

في المرحلة الأولى، وهي التي نعيشها الآن، الثورة لم تعلن انتصارها، لكنها تسيطر على جزء من الأرض، وتطبق قوانينها ولديها قضاتها، وما أعتقده في هذه المرحلة أن تعلن الجهات المسؤولة توقيف العمل بجميع القوانين الأساسية التي تعتدي على الحقوق والحريات، وهنا أودُّ التركيز على كلمة (توقيف) وليس إلغاء؛ لأن الإلغاء من حق السلطة التشريعية المُنتخَبة، وتمتنع عن معاقبة أي مواطن على أساس تلك القوانين.ولمن يتساءل عن الأساس القانوني لهذا التوقيف نقول: المشروعية الثورية التي قامت تدافع عن حقوق الإنسان وحرياته لا يمكن أن تقبل بقوانين مناهضة لقيم الحق والعدل وتجهض الحقوق والحريات.ويقع على السلطات المختصة واجب آخر وهو عدم إصدار قوانين مشابهة أو مقاربة لقوانين النظام في هذا الجانب، وإن صدرت يجب على القضاة الامتناع عن تطبيقها بتفعيل رقابة الدفع لتعارضها مع المشروعية الثورية.

أما في المرحلة الأخرى، وهي انتصار الثورة وانتخاب سلطة تشريعية، فيجب العمل وبشكل متواصل وكأولوية؛ لإلغاء أي قانون أو قاعدة قانونية تتعارض مع الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها بالدستور السوري، أو الواردة بالاتفاقيات والإعلانات الدولية لحقوق الانسان والحريات العامة، والمُوقعة عليها الدولة السورية.

أثر الثورة على القوانين العادية:

هي مجموعة القوانين التي لا تنتمي إلى القوانين الأساسية، وتنظم العلاقات بين الأفراد أو بينهم وبين الدولة، وهي متنوعة ومُتعدِّدة ولا يمكن حصرها، ومن الأمثلة عليها القانون (المدني-الجزائي-التجاري-الأحوال الشخصية).من المبادئ المُسلَّم بها، بقاء القوانين العادية وسريانها بعد قيام الثورة لكونها لا تعالج موضوعات دستورية أو تجسد فكرة سياسية معينة، إنما هي تحكم علاقات الأفراد اليومية والعادية.القوانين العادية لا تؤثر الثورات عليها، وتظل قائمة ونافذة حتى تُلغَى بالطرق العادية؛ لأنها لا تتعلق بنظام الحكم في الدولة، إلى جانب ذلك هناك سبب منطقي يؤدي إلى عدم تأثير الثورة على القوانين العادية، ويتمثل هذا السبب في استمرارية الدولة ودوامها على الرغم من تعاقب الحكام وتواليهم، يقول الدكتور (محمود حلمي): "الدولة التي كانت قائمة قبل الثورة تظل هي بعينها الدولة القائمة بعدها، فالدولة تستمر وتدوم بالرغم من تغيير دساتيرها وإشكالها السياسية، ولهذا يجب استمرار العمل بالقوانين الوضعية وبالتزامات الدولة، ما لم ينص على إلغائها صراحة."لذلك من المُسلَّم به أن تبقى جميع القواعد القانونية في الدولة إلا ما يُلغَى منها صراحةً، أو يتعذر تطبيقه لتعارض أساسه مع النظام الثوري الجديد.

أثر الثورة السورية على القوانين العادية:يجب على الثورة والقائمين عليها أن يعلنوا التزامهم بمنظومة القوانين العادية، وأن تُطبَّق في محاكمهم باستثناء أي مادة تتعارض مع قيم الثورة ومبادئها التي تحرسها المشروعية الثورية.وبعد انتصار الثورة وانتخاب سلطة تشريعية، يمكن دراسة تلك القوانين وتعديلها لتتناسب أكثر مع التطور القانوني العالمي وتستفيد من التجارب المعاصرة، ولا سيما أن أغلب تلك التشريعات صدرت في منتصف القرن الماضي.

الثورة وقانون الأحوال الشخصية:نتوقف عند قانون الأحوال الشخصية ليس للدفاع عنه، وهو يستحق ذلك، لكن لإيضاح بعض المغالطات المطروحة على الساحة الثورية خصوصًا حول قانون الإرث.فقد توالت الصيحات من قبل بعض المنتمين للثورة لتغيير قانون الأحوال الشخصية، ولا سيما فيما يتعلق بالإرث والمساواة بين الذكر والأنثى في الإرث، إذ يعدُّون هذا الأمر من أولويات الثورة.بغض النظر عن اختلافي مع ما يذهبون إليه موضوعًا، لكن من الناحية الشكلية طَرح هذا الموضوع مترافق مع الدستور، وكأنه قضية دستورية، ويجب أن يؤسس لذلك التوجه في الدستور.هذا مالا يتفق مع المنطق القانوني السليم، فالقواعد القانونية لها تراتبية حددها الفقيه النمساوي (كلسن) حيث من الأعلى الدستور ثم تليه التشريعات العادية، فهنا قواعد كل جهة تنتمي لمجموعة لها تراتبية مختلفة.لذلك لا يجوز معالجة قواعد الإرث في الدستور، ولا إلزام المُشرِّع العادي بأي خطوة بهذا الاتجاه؛ لأنه يُعدُّ تقييدًا غير مُحق من قبل المُشرِّع الدستوري للمُشرِّع العادي مُمثَّلاً بالبرلمان.الثورة فرَّقت بالتعامل بين القاعدة الدستورية والعادية، فأثرها على الدستور، كما رأينا، هو السقوط، بينما أثرها على القاعدة القانونية العادية هو الحفاظ عليها لحين تغييرها من المُشرِّع.

إن محاولات البعض صبغ الدولة بالعلمانية حتى يتخلص من قانون الأحوال الشخصية مُستقبلاً، يقابلها محاولات لربط التشريع بالإسلام من خلال النصّ على أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع.نرى كلتا المحاولتين لا أثر لهما من الناحية العملية، فبعض الدول نصّ دستورها على إسلامية الدولة، وغيَّر قواعد الإرث وساوى بين الذكر والأنثى، ومنها تونس التي نصَّ الفصل الأول في دستورها على أن (تونس دولة، حرة مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها.

لا يجوز تعديل هذا الفصل) ومع ذلك تمكن البرلمان من تغيير قانون الإرث.إن معالجة القضايا الخلافية في المجتمع تتم في أغلب الدول العربية بطريقة مواربة، وتبتعد عن المواجهة، ولا تفصل بشكل صارم بين النظام القانوني والمنظومة العقديّة، أو على الأقلّ في جزئها المتعلّق بالميراث.وقد وقع تبنّي هذا المنهج المرن من قبل السلطات السياسيّة في الدول العربية عمومًا تفاديًا للضغط الاجتماعي الذي قد يتولّد من إصدار أحكام وقواعد قانونية صادمة للرأي العام، أو مُتعارضة في جوهرها مع المنظومة الدينية لأغلبيّة الشعب.هذا في ظل دول مستقرة، فما بالك بدولة خارجة من صراع دام سنوات، ما نؤمن به أن حلَّ أي قضية خلافية في أي مجتمع، مهما كان نوعه أو جنسه، فإنها تحتاج جوًّا من الهدوء والسكينة والاستقرار حتى لا يتحول الخلاف إلى عامل انفجار داخل المجتمع.وما نراه، تركُ هذا الموضوع لمرحلة لاحقة يستقر المجتمع فيها، وينتخب برلمانًا يعبِّر عن إرادة السوريين الحقيقية، عند ذاك نستطيع أن نحكم على التوجه الذي يقتنع به السوريون ويرتضونه لهم.

لذلك فإن هذه المعركة تضاف إلى معارك الوهم التي يخوضها السوريون، تاركين المعركة مع الاستبداد التي هي أسُّ كل داء وسبب كلّ علة، هذه المعركة المُستعجَلة مكانها قبة البرلمان وأروقة السلطة التشريعية، وليس ندوات نخبوية مُستعجَلة لقطف الثمار قبل زرع بذرة الشجرة.