الأربعاء 2019/11/27

إيران وراء تعطيل اللجنة الدستورية السورية، وتسعى نحو دستور طائفي يحافظ على نفوذها؟

بالنسبة لروسيا كانت الأمور تسير بشكل جيد أول انطلاق أعمال اللجنة الدستورية، فرغم انتقال اللجنة إلى جنيف برعاية الأمم المتحدة، إلا أنّ روسيا استطاعت الاستمرار في تصريحاتها حول انبثاق اللجنة عن مؤتمر سوتشي الذي جرى على أراضيها وبإشراف كامل منها، بما يبقيها العنصر الرئيسي في التفاهمات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، حول طبيعة عملية الانتقال السياسي، وترتيبات الحل النهائي للحرب في سوريا، بما يشمل مشاريع إعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، والأهم من ذلك الحفاظ على النفوذ الروسي في المنطقة عبر الاحتفاظ بالقواعد العسكرية الروسية المتقدمة، وخصوصاً قاعدة حميميم، ومرفأ طرطوس، إضافة للامتيازات التي حصلت عليها عبر الاتفاقيات الاقتصادية طويلة المدى التي وقّعتها في فترة الحرب مع النظام السوري.

الحرب في سوريا وطريقة التدخل الإيراني فيها لإنقاذ نظام الأسد بالدفع بحليفها حزب الله اللبناني، ثم بالحرس الثوري الإيراني، والميليشيات الطائفية الشيعية المرتزقة، والحشد الشعبي العراقي، جعل من إيران لاعباً رئيسياً يجب وجوده دائماً، لذا وبعد استبعاد إيران من مفاوضات جنيف 2، كان لا بدّ من إعادتها في مؤتمر فيينا 2 لتمرير القرار 2254 الذي انعقدت على أساسه كل جولات جنيف التفاوضية اللاحقة، كذلك صارت إيران واحدةً من ثلاث دول ضامنة لمسار أستانا "العسكري" الذي أسّس لاتفاقات مناطق خفض التصعيد، وشريكاً في مؤتمر سوتشي "السياسي"، وكانت تتحضّر لأخذ دور واسع في صياغة الدستور السوري الجديد، بحيث تكون لها اليد الطولى، كما هو حالها في كل من لبنان والعراق.

هذا يقتضي أن يكون الدستور الجديد دستوراً طائفياً بامتياز، يقوم على المحاصصات الطائفية الدينية والمذهبية والعرقية، وتقاسم المناصب السياسية والبرلمانية والعسكرية والمدنية، واستغلال التغير الديموغرافي الهائل في البلاد، وفرض سيطرة الأمر الواقع الناتج عن موجات اللجوء والنزوح الداخلي،مع استمرار منع أو عدم إمكانية عودتهم إلى مناطق سكناهم الأصلية، وحرمانهم من الوصول إلى وثائثقهم الشخصية التي تتيح لهم حق المشاركة في عمليات التصويت والانتخابات القادمة، كذلك حرمانهم من أملاكهم المصادرة بالقوانين التي أصدرها النظام، إضافة لعمليات التجنيس الممنهجة  التي حدثت بعد عام 2011، وأخيراً عمليات تشييع السكان الخاضعين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحرس الثوري الإيراني، والميليشيات التابعة له.

هذه الخطّة نجحت في بلدين عربيين مجاورين مرّا بنفس الظروف التي تمر بها سوريا، واليوم إيران لها الكلمة الفصل في العراق، وتتحكم بكل مفاصله، وهي كذلك في لبنان فرضت حزب الله على مجلس النواب والحكومة وتمتلك ما يسمى "الثلث المعطّل" الذي أوصل لبنان في أكثر من مرة إلى حافة الفشل، والتهديد بعودة الحرب الأهلية، وإيران تسعى نحو تكرار الخطة في سوريا واليمن.

بالطبع هذا أيضاً يضع رموز النظام الذين قادوا الحرب الوحشية على الشعب السوري في سدّة الحكم من جديد، حين يضمن لهم الدستور مقاعد ثابتة، ويجنّبهم من الملاحقة القانونية على الجرائم والانتهاكات التي مارسوها أيام الحرب، ولذا يعتبر دستور من هذا النوع هو الخيار الأمثل لكل من إيران ورموز النظام الحالي.

الذي حدث في الجولة الدستورية الأولى أن وفد المعارضة قدّم أوراقاً دستورية وطنية، بعيدة تماماً عن المحاصصة الطائفية، ويركّز على المواطنة المتساوية، والحقوق والحريات، لكل أفراد الشعب السوري، بغضّ النظر عن أيّ شيء آخر، ومثل ذلك قدّم وفد المجتمع المدني، وكان لافتاً للنظر أن عدداً من أعضاء وفد النظام كان له نفس التوجّه، مع ملاحظة أنه لم يكن مسموحاً لهذا الوفد الخوض في المناقشة الدستورية الصرفة، وإنما فقط الحديث عن سيادة الدولة، ومكافحة الإرهاب، وإدانة الاحتلالات الأجنبية للبلاد، ورفع العقوبات عن النظام، وهو ما تحول في الجولة الثانية إلى ما يسميه وفد النظام الركائز أو الثوابت أو المبادئ الوطنية الأساسية.

هذا الدستور الوطني كان محل إجماع للجنة الدستورية التي تضم جميع مكونات الشعب السوري، مع مطالب إضافية في ورقة واحدة حول حقوق الكرد، وما ورد فيها لا يخرج في مجمله عمّا يرد في وثائق المعارضة، عدا مصطلح المناطق الكردية.

هذه مفاجأة لم تكن بحسبان إيران، ولا رموز النظام، كان الاعتقاد السائد عندهم أنهم أوصلوا الشعب السوري إلى مرحلة متقدمة من التفكك، وعدم الثقة التي تدفع نحو المطالبة بدستور محاصصة ضيق شبيه بدستور العراق، وهذا ما يلتقي مباشرة مع مصالح إيران والنظام مباشرة، وبحسب الواقع الحالي يستطيع هذان الطرفان الحصول على امتيازات دستورية، يمكن أن تتسبب بمقاطعة بعض المكونات الأخرى للانتخابات التي ستجري وفق الدستور الجديد، وهو ما يعطيهم أيضاً فرصة للاستفراد بحكم البلاد من جديد.

على هذا الأساس يبدو أنه تم اتخاذ قرار تعطيل الجولة الثانية للجنة الدستورية، وإبطاء سير عملها ريثما يحاول النظام وإيران، إما تشتيت الإجماع الوطني للمعارضة حول طبيعة الدستور، أو إفشال عمل اللجنة في جنيف، تمهيداً لتبرير نقلها إلى سوتشي، وهو ما دأب رأس النظام على التصريح به طيلة هذا الشهر، في نيّة مبيّتة لضرب عمل اللجنة في جنيف حيث قال أكثر من مرة "عدنا إلى جنيف جغرافياً فقط. أما سياسياً فنحن جزء من سوتشي وكل ما يحصل هو جزء من سوتشي واستمرار لسوتشي ومرجعيته هي سوتشي. جنيف ليست موجودة، ليست جزءاً من هذا الموضوع".

لا تبدو روسيا راضية على موقف النظام وإيران، وهي أبلغت المعارضة بذلك، لكن النظام وإيران مستعدان للذهاب في تخريب العملية الدستورية إلى أبعد مدى ما لم تحقق مصالحهما، ولذلك فمن الضروري أن تعي المعارضة مخاطر توقف العملية في جنيف، واستمرار محاولة حشد الدعم الشعبي والدولي حولها، فدستور بالمقايييس الإيرانية سيقود أولا إلى دولة فاشلة، وإلى تفجير للأوضاع من جديد كما يحدث الآن في العراق ولبنان.