الثلاثاء 2019/12/03

كيف تسبّب الفيتو الروسي بانهيار الليرة السورية؟

استخدمت روسياحق النقض الفيتو في مجلس الأمن بما يوازي تقريباً مجموع استخدام باقي الدول الأربع التي تملك هذا الحق حسب النظام العالمي الناشئ بعد الحرب العالمية الثانية،وكانت روسيا استخدمت الفيتو في مجلس الأمن خلال الفترة ما بين 1946 و1970 ثمانين مرة وفرنسا ثلاث مرات، بينما فعلت ذلك بريطانيا مرتين فقط، فيما لم تبدأ الولايات المتحدة باستخدامه إلا في عام 1970 أي بعد ثمانين فيتو روسي، أما الصين فلم تلجأ إليه أول مرة إلا في عام 1977.

إلى يومنا هذا تكون روسيا رفعت يدها بالتصويت بالفيتو ما يزيد عن 140 مرة، كان نصيب نظام الأسد منها 13 مرة، منها 7 مرات خلال عامي 2016 و 2017، وبعضها كان ضد إدانة نظام الأسد لضربه عدداً من المدن والبلدات السورية بالأسلحة الكيماوية المحرّمة دولياً، في أكبر عمليات جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة جماعية بعد الحرب العالمية الثانية.

المهمة الأولى والأساس لمجلس الأمن الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، لكن روسيا بتعسّفها في استعمال الفيتو مضت بالحفاظ على الديكتاتور السوري، واستماتت في الدفاع عنه، ضاربة بعرض الحائط جميع القيم التي تستند إليها الأمم المتحدة في أعمالها، فما الذي دفع روسيا لهذا الموقف؟

روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي فقدت مكانتها في القطبية الثنائية للعالم مقابل الولايات المتحدة، والغرب عموماً، كما فقدت العديد من الجمهوريات التي كانت تتبع حلف وارسو، وبعض دول أوربا الوسطى والشرقية لصالح حلف الناتو مثل استونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وسلوفينيا، وسلوفاكيا، وبلغاريا، ورومانيا، ومع وصول بوتين للسلطة بدأ العمل جاهداً لاستعادة هذه المكانة بشتّى الطرق.

ما من أمل لروسيا أن تنافس الولايات المتحدة من الناحية الاقتصادية ولا من الناحية العسكرية، فالبون شاسع جداً بينهما، فالناتج القومي ومعدل الإنفاق العسكري يتفوّق فيه الجانب الأمريكي على الروسي بما  يقارب خمسة عشر ضعفاً، إضافة للعلاقات الدولية، وللنفوذ الأمريكي في مناطق أوسع وأهم في العالم، لذا ذهب بوتين إلى استخدام الفيتو السلاح الأخطر الذي تملكه روسيا، والذي اعتبره بوتين أثمن سلعة يمكن أن يتاجر بها، وتكون طريقه إلى استعادة مكانة روسيا المفقودة.

كانت الحرب في سوريا المكان الأفضل ليجرّب فيه بوتين سلاحه هذا، وبنجاحه في حماية الأسد من الإدانة ومن السقوط، بدأ بتسويق سلعته على ما يقارب 70 زعيماً، يشابهون الأسد في حكمهم بعدد من الوجوه وخصوصاً في التشبّث بالسلطة، وعدم احترام حقوق الإنسان، بوتين يقدّم نفسه اليوم كموفّر "لسيادة" هؤلاء الحكام، وحمايتهم من قرارات إدانة، أو ملاحقات دولية، مقابل صفقات عسكرية وتجارية بمليارات الدولارات، وكمثال على هذا القمة الروسية الإفريقية الأخيرة التي تقاطر فيها ممثلوا الدول الإفريقية الأربع والخمسين بكاملها، بين رؤساء ونوابهم، أو رؤساء حكومات، ووزراء خارجية، في خطوة هي الأولى من نوعها، وتهدف فيما تهدف إلى جعل روسيا شريكاً قوياً لإفريقيا، وسبق ذلك زيارات تاريخية لم تكن تحدث سابقاً مثل زيارة الملك سلمان، والعديد من الحكام العرب.

بالطبع هذا لا يروق للولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي الذين يعتبرون هذه المناطق مناطق نفوذ لهم، ومعظمها كانت مستعمرات خاضعة للأوربيين، ولا بدّ من طريقة لإفشال مخطط بوتين، وإبعاد ساحة الصراع معه عن أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، حيث الفيتو الحاضر هناك دائماً.

بعيداً عن مجلس الأمن

بالعودة إلى سوريا لم يعد هناك دور يمكن أن يلعبه مجلس الأمن بعد 13 فيتو روسياً، وكان هذا واضحاً في آخر جلسة لمجلس الأمن حول سوريا بتاريخ 22/11/2019 أي بعد الجولة الأولى للجنة الدستورية، وقبل الجولة الثانية بثلاثة أيام، حيث بدا فيها الأفق مسدوداً أمام أي نجاح لعمل اللجنة، فروسيا ترى أن عقد الجلسة الأولى أمر كافٍ لرفع العقوبات الاقتصادية عن نظام الأسد، وبوجوب إعادة تأهيله وتطبيع العلاقات السياسية والدبلوماسية معه، وضخّ الأموال لمشاريع إعادة الإعمار، مقابل الرؤية الأمريكية البريطانية الألمانية الفرنسية، حول بدء انتقال سياسي حقيقي، يبدأ بوقف القصف الوحشي على السكان المدنيين، وإنشاء بيئة آمنة ومحايدة، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وصولاً لإقامة حكم جديد في البلاد بديلاً عن النظام الحاليـ وهو ما ينسف خطّة بوتين من جذورها، ويعيده إلى نقطة الصفر، ويجرّد سلاح الفيتو من مفعوله، ليس في سوريا فحسب، بل وفي جميع الدول التي تنتظر مثل ذلك الغطاء الروسي لها.

في تلك الجلسة تحدّث السفير الأمريكي جيفري عن السبل الموصلة للحل السياسي في سوريا، لكنه وضع وسيلة وحيدة للوصول إليها تتمثل بـ " استمرار ممارسة المجتمع الدولي ضغوط دبلوماسية واقتصادية لا هوادة فيها على دمشق" وأن الولايات المتحدة تتمسّك "بموقفها المتمثل في أنه لا يمكن تقديم أي مساعدة لإعادة الإعمار إلى دمشق في المناطق التي تسيطر عليها إلا عندما يتم تنفيذ عملية سياسية ذات مصداقية ولا رجعة فيها تمشّياً مع القرار 2254" و"أن هذا الموقف يتوافق مع موقف العديد من شركائنا الأوروبيين وشركائنا في الشرق الأوسط، وسنعمل بشكل وثيق معهم لضمان استمرار هذا الضغط"، وأضاف مهدداً في إشارة لإيران وروسيا "أن هناك طريق للمضيّ قدماً" بالمحافظة على "ممارسة الضغط على النظام، وعلى من يدعمونه"، وتجلّت هذه السياسة الأمريكية بالانهيار الكارثي لليرة السورية لتقترب من تجاوز حاجز الألف ليرة منذرةً بجحيم اقتصادي، وغليان شعبي سيواجهه النظام في المرحلة القادمة، وتجبره على الانخراط الجدّي في مفاوضات الانتقال السياسي، وتحرمه من الاستفادة من الغطاء الروسي.

الروس الذين فهموا الرسالة الغربية التي تتجاوز حاكم سوريا إلى غيره من الحكام الذين يأملون بحماية بوتين لهم، كان ردّهم تعطيل الجولة الثانية من اللجنة الدستورية، والإيعاز للنظام لمنع وفده من دخول قاعة الاجتماع، والإعلان عن تثبيت موعد الجولة 14 من مسار أستانا بعد توقّف زاد عن أربعة أشهر، في محاولة منهم للتهديد بنقل اللجنة الدستورية إلى مسار أستانا، أو إلى مدينة سوتشي الروسية التي يعتبرونها مسقط رأس اللجنة الدستورية.

العقوبات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية ستكون أساس النظام العالمي الجديد لحلّ الأزمات المعقّدة الشبيهة بالأزمة السورية طالما حق النقض الفيتو موجود في مجلس الأمن دون معايير منضبطة لاستخدامه حسب القانون الدولي، أو أن الأمم المتحدة ستضطر لإلغاء هذا الحق بالكليّة أو حسب شكله الحالي، لكن إلى أن يحدث ذلك، فستستمر باقي الدول في سياسة العقوبات هذه.

في النهاية هذا يعني وبشكل كبير عدم حدوث تقدم يُذكر في أعمال اللجنة الدستورية، إن لم يؤدِّ إلى تجميدها حتى إشعار آخر.