الأربعاء 2018/12/12

نزع “سيادة النظام” عن شمال سوريا

نصَّ بيان جنيف 30 حزيران/يونيو 2012 على "إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية. وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة"، وعلى أساس هذا البيان صدرت القرارات الرئيسية الخاصة بالحل السياسي في سوريا، وخصوصا القرار 2118، 2254.

حدّد بيان جنيف كذلك تسلسل خطوات العملية الانتقالية التي ستعمل عليها هيئة الحكم الانتقالية على الشكل التالي:

أولاً: يعاد النظر في النظام الدستوري والمنظومة القانونية. وأن تُعرض نتائج الصياغة الدستورية على الاستفتاء العام.

ثانياً: بعد إقامة النظام الدستوري الجديد، من الضروري الإعداد لانتخابات حرة ونزيهة وتعددية وإجرائها لشغل المؤسسات والهيئات الجديدة المنشأة.

القرار 2254 الذي صدر أواخر عام 2015 والذي يعتبر أساس المفاوضات اليوم وضع هذا الجدول في إطار زمني مدته 24 شهراً للعملية الانتقالية بكاملها.

انهارت جولة المفاوضات الأولى في جنيف 2 عام 2014 بسبب رفض النظام لهذا الجدول حسب ترتيبه، وإصراره على التفاوض حول بند وحيد هو "مكافحة الإرهاب"، وخلال السنوات الماضية جميعها وبعد عقد 9 جولات في جنيف، و11 جولة في أستانا، ومؤتمر الحوار في سوتشي، امتنع النظام عن التفاوض حول تشكيل هيئة الحكم الانتقالية.

جعل النظام موضوع "السيادة الوطنية" مانعاً من تدخل الأمم المتحدة في "شؤونه الداخلية"، كانت حقيقة "السيادة الوطنية" ذلك الكمّ الهائل من الانتهاكات التي ارتكبها النظام بحق الشعب السوري.

عد النظام التدخل العسكري الروسي والإيراني، وتدخل "حزب الله" اللبناني والمليشيات الطائفية تدخلا شرعياً لأنها حصلت بطلبه أو بموافقته عليها، فيما عد دخول أطراف أخرى مثل تركيا والولايات المتحدة احتلالاً وتدخلاً غير شرعي لأنها دخلت بغير إذنه أو طلب منه باعتباره الوحيد الذي يملك "السيادة الوطنية" في سوريا.

ورغم تقلّص العملية السياسية، واقتصارها على بند وحيد هو "الإصلاح الدستوري"، أو صياغة دستور جديد للبلاد، فإن النظام لا يزال يعرقل تشكيل اللجنة الدستورية، والانسداد وصل أوجَهُ في وجه المبعوث الدولي السيد "دي ميستورا" الذي سيغادر عمله نهاية هذا الشهر دون تحقيق إنجاز يذكر بعد أربع سنوات ونصف قضاها يعمل على الملف السوري.

المبعوث النرويجي الذي سيخلف "دي ميستورا" سيأتي بأفكار جديدة بلا شك، والمعارضة عليها أن تفعل ذلك لا أن تبقى مكبّلة تنتظر موافقة النظام على شيء قد لا يأتي، ولو أتى فبالطبع لن يكون مناسباً لها، وعليه فإنه يمكن للمعارضة الآن أن تطبق بيان جنيف وقرارات مجلس الأمن مع فارق واحد هو عدم وجود النظام بسبب امتناعه عن الانخراط في العملية السياسية، تعمل فيه المعارضة على الإعلان عن تشكيل هيئة الحكم الانتقالية في الجزء الشمالي من سوريا، أي منطقة شمال شرق الفرات، ومناطق غرب الفرات التي تشمل مناطق عمليات "درع الفرات" و"غصن الزيتون" ومحافظة إدلب، أي جميع المناطق التي تقع خلف نقاط المراقبة التركية حسب الاتفاق التركي الروسي الأخير.

يجب على المعارضة اليوم منازعة النظام على صفة السيادة في الجزء الشمالي من البلاد، ومنح هذه الصفة لحكم محلي تعمل على تأسيسه استناداً إلى قوة الشرعية الانتخابية التي سيحصل عليها من السكان مباشرة.

ليس هناك مشكلة كبيرة في أن يحصل هذا الحكم المحلي على اعتراف دولي، أو ألا يحصل عليه، الأهم هو قبول بعض الدول التعامل معه، والإقرار به كواقع يفرض نفسه على الأرض، وروسيا بالذات سيكون اعتراضها ضعيفاً، أو غير ذي قيمة وهي الدولة التي تعترف بجمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتين فصلتهما موسكو عن جورجيا، لا أحد يعترف بهاتين الدولتين إلى جانب روسيا سوى فنزويلا ونيكاراغوا، ليلحق بهم نظام الأسد في وقت سابق من هذا العام.

كيف يمكن ضمان موافقة تركيا؟

تركيا لديها تجربة سابقة في الاعتراف بجمهورية شمال قبرص، وهي تدعم بشكل كبير المعارضة شمال غرب البلاد، لكن موافقتها على نشوء حكم محلي في هذه المنطقة فقط، سيضعف اعتراضها على نشوء حكم محلي كردي شمال شرق البلاد، والطريقة الوحيدة لضمان موافقة تركيا هي أن ينشأ الحكم المحلي على جانبي الفرات، وعلى طول الحدود الجنوبية التركية، والفرصة ستكون سانحة لتثبت المعارضة الكردية أنها معارضة وطنية، وتقبل بتشكيل حكم محلي موحد شمال البلاد.

اللجنة الدستورية الخمسين التي سمّتها المعارضة ووافق عليها النظام سابقاً إضافة إلى الخمسين التي سمّتها الأمم المتحدة يمكن أن تبدأ عملها على وضع دستور مؤقت، وإقراره بالاستفتاء العام عليه. كذلك يتم تشكيل محكمة دستورية، ومجلس قضاء أعلى للعمل على وضع منظومة قانونية (تعديل القوانين السارية أو وضع قوانين جديدة) مثل قانون الانتخابات، الإدارة المحلية، الأحزاب، الإعلام، الجنسية، التجارة، الاقتصاد. وتشكيل مجلس عسكري يعمل على ضم جميع المقاتلين في الشمال في الجيش الوطني، وتأسيس جهاز الشرطة المدنية. وبدء عملية إعادة إعمار تؤهل لاستقرار النازحين، وعودة اللاجئين. على أن تتوّج هذه المرحلة بإجراء انتخابات محلية وبرلمانية ورئاسية، ويتم نقل السلطات والصلاحيات للحكم المحلي الجديد القائم على هذه الشرعية الانتخابية.

لطالما كان النظام يعتبر الوقت أحد أسلحته ويراهن عليه، الآن سينقلب هذا الأمر عليه، كلما طال عمر الحكم المحلي كلما كسب حاضنة شرعية أكبر بالأمن والخدمات والحريات التي يوفرها للسكان المحليين، سيكون تحديا كبيرا للحكم المحلي أن يعطي صورة الحكم الرشيد الذي يطلبه الشعب السوري، والذي قام بثورته في سبيل الوصول إليه.

النظام في حالة كهذه محروم فيها من معظم الموارد والثروات، ومع تلك المليشيات المتفلتة في مناطق سيطرته، سيصل إلى حافة الانهيار التام، وسيقع تحت ضغط هائل من الموالين له قبل غيرهم للانخراط هذه المرة في عملية سياسية جدية تتيح إحداث تغيير حقيقي في الحكم الفاسد المستمر منذ خمسين عاماً مضت.