الأحد 2018/07/01

إسقاط المنطقة الشرقية.. الجائزة الثانية للأسد

16 تموز/يوليو القادم ستكون القمة التي تجمع بين رئيسي الولايات المتحدة وروسيا في مدينة هلسنكي الفنلندية، فنلندا الدولة المحايدة التي لا تتنمي للاتحاد الأوروبي.

ترامب بوتين التقيا على هامش قمتين دوليتين سابقتين، ستكون هلسنكي المحطة الثالثة في تاريخ الرجلين، لقاء هامبورغ قبل عام إلا عشرة أيام تمخّض عن "اتفاق خفض التصعيد" جنوب سوريا الذي يسقط الآن بيد الروس، وتلاه لقاء فيتنام قبيل نهاية العام المنصرم وشددا فيه على اتفاقهما السابق.

هدّأت قمة هلسنكي الأولى 1975 مخاوف الأوربيين من الاتحاد السوفييتي، كان اتفاق هلسنكي إعلان نوايا مشتركاً لتحسين العلاقات بين الدول الشيوعية والرأسمالية في خضم الحرب الباردة بينهما. كما عبّر عن سياسة وفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أكبر قوتين نوويتين في العالم. هلسنكي القادمة ستعيد مخاوف الأوربيين إلى الواجهة من جديد، فبعيداً عن استراتيجيات السياسية الأمريكية التي تظهر بين فترة وأخرى، ويطبَّق بعضها ويُهمل الكثير منها، فترامب يتًبع مبادئه الخاصة أكثر مما يتّبع سياسات البيت الأبيض التي يعتبرها تقاليد بإمكانه الخروج عنها ساعة يشاء. ويضع تقاليده التي بدأت تتبلور أولاً بأول.

ترامب خارج نطاق الاجتماعات الجانبية، لا يلتقي خصومه على أرضه، ولا على أرضهم، ولا على أرض حلفائه أعداء خصمه، يذهب إلى أرض محايدة، فعلها مع الكوري الشمالي، لم يلتق به لا في واشنطن، ولا في سيؤول، ولا في بيونغ يانغ، ذهب إلى سنغافورة، وهو يفعل الأمر نفسه مع بوتين الآن، في ذلك من الرسائل العديدة ما لا يخفى، أقلّها أنّ ذلك يسهّل عليه العودة خطوة إلى الوراء حين لا يحقق أهدافه من الاجتماع.

جلّ من دعاهم ترامب إلى البيت الأبيض، أو استجاب لطلبهم في زيارته هم من الضعفاء على الساحة السياسية العالمية، هؤلاء من الصنف الذين يزدريهم ترامب: ابن سلمان، وعبد الله الثاني، وحتى ماكرون "الطفل الصغير"، الصنف الثاني الأقوياء: يكرههم ترامب: الروسي، الصيني، الكوري الشمالي، التركي، الإيراني، الصنف الثالث المحبوب لديه يتفرد به الإسرائيليون نتنياهو وحكومته.

مبادئ ترامب السياسية حيّرت الكثير من الباحثين الأمريكيين، يقول أحدهم: سألت العديد من كبار المراقبين والمتابعين لسياسات ترامب حول مبدأ رئيسي يجمعها، الأجوبة كثيرة، لكنّ جواباً واحداً منها كان الأكثر دقّة واطّراداً في سياسات ترامب، يقول: مبدأ "العاهرة" هو الأقرب إلى ما يفعله الرجل، لقد أخذ أمريكا إلى من يدفع لها أكثر، يبدو أنه تأثر بصديقته الإباحية العالق معها في قضية في المحكمة.

باع الرجل بقية الأخلاق الإنسانية التي تدّعيها الولايات المتحدة كزعيمة للعالم الحر، المال أول همّه وليس آخره، فالمكاسب يمكن أن تأتي بتقاطع المصالح، وتقديم الخدمات، ولو كان الطرف الآخر ديكتاتوراً مستبداً، أو مجرماً قاتلاً.

لذا على أوروبا القلق من قمة هلسنكي القادمة، ترامب سيهددهم بعصا بوتين إذا لم يدفعوا ثمن الحماية الأمريكية المستمرة منذ الحرب العالمية الثانية، وسيعاقبهم على عدم طاعته في قرار الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، المصالح الأوروبية يجب أن تمر عبر الولايات المتحدة لا أن تنفرد عنها، الرئيس الأمريكي شخصياً في خطاب عام تحدّث بالأمس تماماً عن تهريب زوج من الأحذية يلبسها مواطن كندي بعد شرائها من الأراضي الأمريكية، ويعبر بها الحدود، هذا كافٍ بنظر الرئيس الأمريكي ليخاطب المسؤولين التنفيذيين "علينا أن نغيّر اتجاهاتنا، لا يمكن أن نظل البلد الأحمق، نريد أن نكون بلداً ذكياً".

ذكاء أمريكا في عهد ترامب يتمثل بالحفاظ على زوج أحذية، المواطن الأمريكي أحقّ بها.

عوداً على بدء، اللقاء الثالث سيكون بعد سقوط الجنوب السوري بيد النظام، وسيركّز فيه الرئيس الروسي على ضرورة إعادة بسط سيطرة نظام الأسد على كامل مساحة البلاد، كجزء من "مكافحة الإرهاب" في المنطقة. النجاحات العسكرية حاضرة كأقوى شاهد على ضرورة هذا الأمر، الحدود الإسرائيلية استعادت أمنها الذي فقدته بعد أكثر من أربعين عاماً من الهدوء بجوار قوات الأسد.

الصفقة لتحسين العلاقات مع الروس حسب أولويات ترامب ستكون على حساب المنطقة الشرقية حيث يريد قطع الطريق على امتداد النفوذ الإيراني، وهي الصفقة الأسهل بالنسبة له، ولديه تجربة قريبة ناجحة في منبج حين أمر المليشيات الكردية بالانسحاب من هناك كعربون لتحسين العلاقات مع تركيا.

صدمات الأكراد من الإساءات والمعاملة "الوحشية" الأمريكية بحقّهم لن تتوقّف، بدأ ذلك بعدم الاعتراف باستفتاء "إقليم كردستان" في العراق، ثم تخلّيهم عن المليشيات الكردية في عفرين، ثم طردهم من منبج ومن منطقة غرب الفرات بكاملها، وسينتهي الأمر في المنطقة الشرقية دير الزور والرقة والحسكة. السذاجة الكردية بأنهم "شعب الله المختار" في سوريا لدى الأمريكيين كحال اليهود في فلسطين ستتوقّف حين يسلّم ترامب مفاتيح المنطقة الشرقية لبوتين في هلسنكي، ويسلّمه معها مهام ضبط إيران، الولايات المتحدة لن تخوض حرباً ضد روسيا أو ضد تركيا عضو الناتو القوي لأجل تثبيت مليشيات حتى أكراد سوريا لا يجتمعون حولها، ولديها إرث ثقيل من الانتهاكات وجرائم الحرب بحقّ السكان المحليين من العرب والتركمان، وحتى خصومهم من الأكراد، بحسب معهد دراسات أمريكي "كان الأكراد أصدقاء يمكن التخلص منهم، كانوا لاستخدامهم عند الحاجة لهم، ولكن يتم التخلي عنهم عند الضرورة. هذه هي الجغرافيا السياسية في أكثر أعمالها وحشية كما لعبتها الولايات المتحدة القوة العظمى المتزايدة في العالم".

الرأي السائد في الولايات المتحدة أنه "يجب على واشنطن مغادرة سوريا. التطور النهائي لتلك الدولة لا يهم الولايات المتحدة كثيراً. لم يبق سوى القليل من المتطرفين من تنظيم الدولة، يمكن إرسال العديد من الدول والقوات القادرة على مواجهتهم. التمسك بشمال سوريا لن يجبر الأسد على ترك منصبه أو يؤدي إلى الديمقراطية. تورط إيران وروسيا في سوريا لا يشكل أي تهديد لأميركا. ولن يوسّع نطاق نفوذهم، بل تدخلهم هو محاولة يائسة للحفاظ على النفوذ مع بقايا ظلّ نظام متهالك".

مصيبة الأكراد أنه فات الوقت لعقد صفقة بينهم وبين الروس والنظام على حكم ذاتي موسع، أو إدارة محلية كما كانوا يطمحون قبل أن تخدعهم الولايات المتحدة وتمنّيهم بحكم مستقل عن نظام دمشق، هل سيتمردون على أوامر أمريكا ويبدؤون ثورة حقيقية هذه المرة ضد نظام الأسد؟

إلى ما قبل أيام قليلة لم تعِ مليشيات PYD الخديعة الأمريكية، وقاموا بتصفية لواء ثوار الرقة آخر فصيل عربي مقاتل في المنطقة، والذي كان يمكن أن يكون سنداً لهم فيما لو قرروا قتال النظام.

الروس كما فعلوا في حلب والغوطة وغيرها سيعيدون النظام إلى المنطقة الشرقية، لكن بالمقابل ستتصاعد -وكما خططت أمريكا-ورطة بوتين حين يبدأ بتحجيم النفوذ الإيراني، إيران لن تتقبل هذا بسهولة، وستستمر في نشر الفوضى إلى أن تدفع روسيا في النهاية خارج سوريا وتنفرد بها كما فعلت في العراق.