الثلاثاء 2018/10/30

ما حقيقة تمرّد الأسد على بوتين؟

لم يكن بوتين مهتماً كثيراً ببشار الأسد، أو متمسكاً ببقائه في السلطة. كرر الروس مرات عديدة أن الأسد الابن محسوب على الغرب أكثر مما هو محسوب على روسيا، وأن الغربيين وخصوصاً الأمريكيين والفرنسيين هم من نصّبوه خليفة لوالده.

استمر هذا الموقف الروسي نحو أربع سنوات من عمر الثورة على بشار الأسد، استخدمت فيها موسكو الفيتو ثلاث مرات في مجلس الأمن، وكان تعليلها الرئيسي في ذلك أنها لا تريد لسوريا مصيراً مثل مصير ليبيا التي دبّت فيها الفوضى بسبب التدخل الدولي فيها، وأن المسألة شأن داخلي وقابل للحل بعيداً عن إدانات مجلس الأمن للنظام، الذي استمرت روسيا تعتبره "الحكومة الشرعية الرسمية" في البلاد، وأنه لا يمكن الإطاحة به عبر قرار لمجلس الأمن، وأنها لن تسكت هذه المرة عن تدخل عسكري غربي لتغيير النظام، كما حدث في ليبيا والعراق سابقاً.

رغم الحديث عن المصالح الحيوية الروسية في سوريا، إلا أنها تُعتبر ضئيلة مقارنة بتكاليف تدخل عسكري مباشر في بلد شرق أوسطي تتزاحم وتتقاطع في منطقته مصالح دولية كبرى، وروسيا تعلم جيداً أنها لا يمكن أن تنفرد بنفوذها هناك، كما إن العبء الأخلاقي الذي سيحرج موسكو سيكون هائلاً أمام المجتمع الدولي لوقوفها إلى جانب نظام متوحّش مارس أعلى مستويات القتل والتعذيب والتدمير والتهجير التي شهدها العصر الحديث، حتى إنه لم يتوانَ عن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد السكان المدنيين في العديد من المدن الثائرة ضده.

الحديث برأي كثير من المحللين السياسيين عن خطوط نقل الطاقة، وتصدير السلاح، والتبادل التجاري، والوصول إلى مياه المتوسط الدافئة بإنشاء قاعدة طرطوس البحرية، وغير ذلك من مصالح، ليس كافياً لتورط روسيا في حرب خارجية ظهر أنها ستتحول إلى نزاع إقليمي ودولي طويل الأمد، ولن يكون هذا التورّط عاملاً مساعداً في استعادة روسيا المكانة الدولية التي تطمح إليها كوريث للاتحاد السوفييتي، فما الذي دفع بوتين لاتخاذ قرار التدخل العسكري في الثلث الأخير من عام 2015؟

يرى هؤلاء أن نقطة الانعطاف في الموقف الروسي تجاه الحرب السورية حدثت أواخر عام 2014 حين ظهر الفشل الذريع الذي مني به بوتين في فرض الأمر الواقع على الغرب، والقبول بالتوسع الروسي في شرق أوكرانيا، وضم جزيرة القرم. كانت العقوبات الاقتصادية الغربية تنهال على روسيا من كل حدَب وصوب، والعزلة الدولية حولها تتصاعد بطريقة لم يكن بوتين يتوقعها أبداً.

أراد بوتين صرف الأنظار قليلاً عن أعماله، وفك العزلة الدولية عنه، ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، ورأى أن سوريا يمكن أن تكون خياراً جيداً له في ذلك، اختار بوتين شهر أيلول من عام 2015 ليبدأ هجومه العسكري في محاولة منه لربط هذا التاريخ مع أحداث "11سبتمبر" التي ضربت الولايات المتحدة، وليسوّق نفسه حليفاً للغرب في مكافحة "الجهاديين" في سوريا كعدو مشترك، يضطر الغرب فيه للتعاون مع موسكو ومباركة تدخلها في سوريا على غرار الدعم الذي نالته في حرب الشيشان الثانية. لا بل اقتضت خطة موسكو أكثر من ذلك في الدعوة إلى إنشاء ائتلاف دولي لدعم نظام الأسد وتصويره أقل الشرين مقارنة بتنظيم الدولة. هذا يفسّر استماتة موسكو في سبيل تثبيت الأسد ومنع انهيار نظامه، فهذا هو السبيل الوحيد المتبقي لديها لعقد صفقة ما مع الغرب.

يقول هؤلاء أيضاً أن بوتين أخطأ في كل حساباته، لم يكن الغرب ليقبل بإطلاق يد موسكو في أوكرانيا والقرم مقابل التخلّي عن الأسد، كذلك لم تكن الولايات المتحدة لتقبل بعودة "الكرملين إلى مركز قوة مساوٍ للبيت الأبيض".

ومع مرور الوقت بدأ الدور الدبلوماسي الروسي يضعف خصوصاً مع قرب انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي أوباما ومجيء إدارة ترامب التي غيّرت قواعد اللعبة في سوريا، واعتبرت مناطق شمال شرق الفرات خاضعة لسيطرتها بعد طرد تنظيم الدولة منها، وهو ما اضطر روسيا لبناء تحالف جديد مع تركيا وإيران، وفتح مسار أستانا السياسي، وتعزيز وجودها العسكري في سوريا لمنع سقوط الأسد بشكل من الأشكال، إلى حين التوصل للصفقة المنشودة مع الغرب التي تحفظ ما بقي من ماء وجه روسيا.

بوتين بدل أن يستفيد من هذا التحالف لتقوية موقفه في مفاوضاته مع الغرب، يبدو أنه وقع أسيراً لرغبات كل من تركيا وإيران في سوريا، فتركيا ترفض رفضاً قطعياً أي وجود كردي على حدودها الجنوبية، وبينما يرى بوتين ووزير خارجيته لافروف التدخل العسكري التركي في عفرين لطرد المليشيات الكردية الانفصالية منها عملاً عدوانياً وينتقص من السيادة الوطنية "للحكومة الشرعية" في دمشق، كان أردوغان يرد "عندما يحين الوقت، سنمنح عفرين لأهلها، لكن توقيت هذا الأمر متروك لنا، نحن سنحدده وليس السيد لافروف".

يرى المراقبون أن الأمور على الجانب الإيراني أصعب في هذا التحالف، والمصالح متضاربة بشكل أكبر، فالوجود الإيراني في سوريا أصبح نقطة الخلاف الكبرى مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء، وبينما هي مطالبة بطرد إيران من سوريا تجد نفسها مضطرة للاعتماد على القوات البرية الإيرانية، وإيران التي لديها مشاكلها الخاصة مع الغرب والشبيهة بمشاكل روسيا، ستستخدم وجودها في سوريا في مساومة الغرب لمصالحها هي، ولن تترك ورقة المساومة هذه ليستثمرها بوتين لمصلحته، "وبينما يعتقد الجنرالات الروس أنهم يستخدمون القوة البشرية الإيرانية لصالح موسكو ، قد ينظر الجنرالات الإيرانيون إلى الدعم الجوي الروسي كدرع يسمح لهم بالانتشار بشكل أوسع".

المعضلة الثالثة والأهم التي يواجهها بوتين هي الأسد، الذي أدرك معادلة بوتين، وحاجته وارتهان مشروعه إلى استمرار بشار في السلطة، ومنع انهيار نظامه، إلى أن يتوصّل إلى صفقته تلك مع الغرب، التي كانت دافعه الرئيسي لإرسال قواته إلى سوريا، فتصرفات النظام وتصريحاته الأخيرة حول التهديد باجتياح إدلب، ورفض اللجنة الدستورية، بل والعودة إلى رفض مخرجات مؤتمر سوتشي الأخير، كل هذه تشير حسب رأي المراقبين إلى أن الأسد بدأ بتطبيق استراتيجية "مشكلة الوكيل والرئيسي" المعروفة في الأوساط السياسية والتجارية ، حيث "الوكيل" يكتسب تدريجيا إرادته ويبدأ في العمل لمصلحته الخاصة بدلا من مصالح "الرئيسي".

في مرات عديدة كانت الصور تُظهر استدعاء بوتين للأسد إلى موسكو أو إلى قاعدة حميميم والتعامل معه بطريقة مزرية ومذلة لا تتناسب مع رئيس دولة، لا بل فعل ذلك وزير الدفاع الروسي "شويغو" حين استدعى الأسد إلى حميميم، ووصل الأمر إلى الإذلال العلني للأسد من أحد الضباط الروس عندما منعه من الاقتراب من بوتين بعد انتهاء زيارة تفقد خلالها القوات الروسية الموجودة في سوريا، لكن الأسد الذي كانت فرائصه ترتعد من الرئيس الروسي وجنرالاته يختلف وضعه اليوم، "إنه يمكنه أن يتحمل الاستياء والتوتر الروسيين" و"يشعر بعدم الإكراه على تقديم تنازلات كبيرة"، لقد انقلب السحر على بوتين.

لنسأل الآن: ما حقيقة تمرد الأسد على بوتين؟ وما هي قدرته على ذلك؟ وكيف سيتصرف بوتين؟

تاريخ الأنظمة الدكتاتورية التي تتورط في انتهاكات واسعة ضد شعوبها كما فعل نظام الأسد، يقول إنها لا تتخلى عن السلطة تحت الضغوط السياسية، أو العقوبات الاقتصادية، فمصير قادتها المحتوم في سوقهم إلى محاكم الجنايات الدولية، يجعلهم يختارون دائماً التشبث بالسلطة إلى النهاية، ولو أدى ذلك إلى دمار البلاد، واستمرار الحروب فيها سنوات طويلة، لا بل إن التجارب السابقة تدل على أن هذه الأنظمة تنتعش في ظل هذه الأجواء وتجد فيها المبررات المناسبة للتغطية على جرائمها، كما إن تاريخ الأنظمة الدكتاتورية يقول إنها تتمرد على الدول الراعية لها فيما لو اختلفت مصالحها الوجودية معها، ويمكن تفسير تصرفات النظام الأخيرة ولهجته العالية بداية تمرد على موسكو.

لكن هل بمقدور النظام تحمّل ثمن هذا التمرد؟

النظام لم يعد لديه ما يخسره، وهو يخوض الآن معركة حياة أو موت، ولم يعد بإمكانه التراجع، سيكون كمن يحفر قبره بيده، ولا بد له من الاستمرار في السلطة مهما بلغ الثمن، أو قبول روسيا والمجتمع الدول بتسوية مفصلة على مقاسه، ولا مشكلة عنده أن يتحول إلى دولة مارقة تهدد السلم والأمن الدوليين، سينطلق من نقطة أن الحفاظ على أمن إسرائيل ستدفع الدول لتهدئة الوضع معه، يرى بشار ونظامه أنه يمكن التعامل معهم في حالة تشبه التعامل مع حسن نصر الله وحزب الله اللبناني الذي هو الآن جزء من الدولة اللبنانية إن لم يكن هو الدولة كلها.

ماذا سيفعل بوتين؟

لا شيء مهماً كثيراً، مصير بوتين ارتبط بمصير الأسد، يقول المحللون السياسيون: كيف سيقنع بوتين الشعب الروسي بحرب ضائعة فيما لو انسحب من سوريا دون أن يحقق منها أي هدف؟ هذا سينهي مستقبل بوتين السياسي! لذا سيبقى الضغط الناعم والخشن على الأسد ضمن المجال الذي لا يوصله إلى التمرد والقطيعة مع الروس، وهذا يعني أننا لسنا أمام حل سياسي قريب في منظور السنوات القادمة، وقد تشهد البلاد حالة تقسيم مؤقتة مع استمرار الحرب داخل وبين هذه الأجزاء الثلاثة أو الأربعة فيما لو عاد تنظيم الدولة وسيطر على جزء من شرق البلاد، ومع أن العملية السياسية بمفاوضات ومبادرات ومسارات ولجنة دستورية ستستمر لكن ليس هناك من ثمرة متوقعة منها.