الأربعاء 2019/07/17

فورين بوليسي: لم يفز الأسد بأي شيء يذكر

بقلم: تشارلز ليستر

المصدر: فورين بوليسي

ترجمة: مركز الجسر للدراسات


بعد سنوات من الحرب الدامية، حان الوقت لتحديد ما الذي أحرزه الديكتاتور السوري: دولة عاجزة في حالة من الفوضى والدمار

عندما يتم مناقشة موضوع سوريا هذه الأيام، غالبا ما تسمع عبارات كـ "انتصر الأسد"، أو "تقترب الحرب من نهايتها" وهو أمر مفهوم.

يقع ثلثا الأراضي السورية اليوم تحت سيطرة النظام.

فمنذ التدخل العسكري الروسي في سوريا في أيلول/ سبتمبر من العام 2015، لم تحقق المعارضة السورية فوزا واحدا، كما فقدت الغالبية العظمى من الأراضي التي كانت تسيطر عليها في السابق.

في الوقت نفسه، تعرض تنظيم الدولة لهزيمة نكراء في قرية الباغوز شرق سوريا أواخر آذار/ مارس الماضي.

لذا فقد أصبح الحديث حول سوريا اليوم مرتبطا بشكل كبير بقضايا كعودة اللاجئين وإعادة الإعمار، وتخفيف العقوبات، ومسألة ما إذا كان يجب ربط علاقات مع النظام.

بالنسبة للمدافعين عن النظام، فقد كانت هذه فرصة للاحتفال وتنفس الصعداء، وتوجيه دعواتهم للعالم من أجل قبول هذا الواقع الجديد وإنهاء العقوبات، والمساعدة في إعادة بناء سوريا، واستعادة السيادة في جميع أنحاء البلاد.

لا يمكن اعتبار هذا النوع من الدعوات جديدا، لكنها بدأت في اكتساب تأييد بعض المراقبين وصناع القرار المؤثرين. على سبيل المثال، فقد استضاف مركز كارتر - الذي أسسه الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر - اجتماعاً في نيسان/ أبريل الماضي في لندن لمناقشة قضايا كـ "استرجاع السيادة الإقليمية " و "كيفية التخلص من القوات المسلحة الموجودة في سوريا دون موافقة نظام الأسد"، حضر هذا الحدث الجمعية البريطانية السورية، وهي مجموعة مؤيدة للنظام أسسها والد زوجة بشار الأسد، فواز الأخرس، الذي كان يقدم المشورة للأسد حول كيفية التعامل مع أدلة تعرض المدنيين للتعذيب عام 2012.

كما إن المدير التنفيذي الحالي للجمعية هو شقيق المسؤول عن الأسلحة الكيمياوية لدى النظام.

هناك مشكلة واحدة فقط وهي أن نظام الأسد لم "يحقق شيئاً" يُذكر.

لقد نجا على حساب دم السوريين وخوفهم؛ في الوقت الذي يبقى فيه تحقيق الاستقرار أمراً بعيد المنال.

كما يبدو أن إيجاد حل لآخر معاقل المعارضة شمال غرب البلاد أمر مستعصٍ.

في أماكن أخرى من البلاد، هناك العديد من الإشارات على حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي ستعم البلاد في المستقبل.

لم تعد سوريا في حرب أهلية مفتوحة، لكن حِدة الأزمة السياسية بالبلاد في تزايد مستمر.

لا تزال الأسباب الحقيقية التي دفعت البلاد إلى الانتفاض سنة 2011 قائمة، بل إن معظمها اليوم أسوأ من ذي قبل، فقد أصبح العيش في المناطق التي يسيطر عليها النظام والتي يسكنها أكثر المدافعين عنه، أصعب مما كان عليه خلال الحرب.

يستدعي حديث موضوعي عن سوريا الاعتراف بمدى عدم استقرار الوضع هناك، وكيف سيؤدي بقاء النظام هناك إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار والصراع خلال السنوات القادمة.

إدلب: معاناة في ظل عدم مشاركة إيران

يقع آخر معقل للمعارضة في الشمال الغربي لسوريا، حيث تشكل نحو 4 ٪ من أراضي البلاد، وتؤوي أكثر من 3 ملايين مدني، نصفهم نازحون.

تضم هذه المنطقة، حسب تقديري، نحو 60 ألف مقاتل مسلح، مصممين على مواصلة القتال ضد النظام ومؤيديه.

نصف هؤلاء تابعون لمجموعات المعارضة، بينما ينتمي النصف الآخر إلى جماعات جهادية، بعضها مُوالٍ للقاعدة.

منذ نحو شهرين، كان هذا الجيب الصغير هدفا لهجوم واسع النطاق شنته القوات البرية والجوية الموالية للنظام.

مهّدت حملة جوية ومدفعية الطريق للهجمات البرية من قبَل أكثر الوحدات ولاء للنظام، بما في ذلك قوات النمر الشهيرة، والحرس الجمهوري، والفرقة الرابعة.

ومع ذلك، وبعد أكثر من 10 أسابيع، استعاد النظام 1 ٪ فقط من الأراضي، على حساب مئات الجنود وعشرات الدبابات والعربات المدرعة والطائرات.

في الوقت نفسه، قتل نحو 400 مدني ونزح أكثر من 330  ألفاً آخرين.

لقد أصبحت مخيمات النازحين ممتلئة، كما أصبحت بساتين الزيتون مساكن لأعداد كبيرة من العائلات الهاربة من القصف الجوي والمدفعي العشوائي.

ليس هناك دليل أفضل على افتقار نظام الأسد للقوة البشرية لاستعادة السيطرة على بقية البلاد من الأحداث الأخيرة في إدلب.

فالنقطة الفصل هنا هي رفض إيران مشاركة مليشياتها في معركة إدلب، بحجة أن الشمال الغربي ليس ذا أهمية استراتيجية بالنسبة لمصالحها في سوريا، وذلك منذ اجتماع في أستانا، كازاخستان، في شباط / فبراير الماضي.

لم تكن أهمية إيران وروسيا بالنسبة للأسد أكثر وضوحا مما هي عليه اليوم.

من شأن هذا الأمر وحده أن يثير تساؤلات جدية حول مدى مصداقية أي طلبات بمغادرة جميع القوات الإيرانية والقوات المرتبطة بها من سوريا، في الوقت الذي تواصل فيه إدارة ترامب طرح هذه المسألة كشرط مسبق لإجراء أي محادثات جادة حول الملف السوري.

على الرغم من محاولات الأسد التركيز على هدفه المتمثل في استعادة كل شبر من سوريا، يبدو أن محافظة إدلب التي لا تتجاوز 4 ٪ من مجموع الأراضي السورية تمثل تحدّياً لم يستطع النظام التغلب عليه.

والواقع أنه بعد الهجوم المباغت الذي شنته قوات النظام على اللاذقية في الأيام القليلة الماضية، بدا وكأن النظام سيتراجع ويقلل بالتالي من عدد القوات التابعة له والموجودة على الخطوط الأمامية.

في حال استمرت تركيا في دعمها لفصائل المعارضة، قد يؤدي ذلك إلى ظهور "غزة جديدة" داخل إدلب، حيث تتم محاصرة منطقة يديرها متطرفون.

وهو ما تسعى هيئة تحرير الشام، التي كانت تابعة لتنظيم القاعدة، للترويج له، حيث قدمت اقتراحا يقضي بجعل ما يطلق عليه "حكومة الإنقاذ" السلطة الفعلية في المنطقة.

لا يصب هذا الطرح في مصلحة أي من الأطراف الفاعلة، وخاصة سكان المنطقة البالغ عددهم 3 ملايين مدني.

قد يكون استمرار حالة الفوضى والعنف التي تشهدها المنطقة في مصلحة فصائل أخرى تابعة للقاعدة: كـ "تنظيم حراس الدين" الذي يحاول إعادة تشكيل نموذج الطلائع العسكرية التابع لأسامة بن لادن.

على الرغم من ادعاءات هذه الجماعات بأنها تركز على القتال العسكري في شمال غرب سوريا، فقد أفادت مصادر موثوقة بأنها تعيد النظر في قتال "عدوها البعيد ".. الغرب.

على خلفية لقاءات منفصلة قمت بها مع ثلاث شخصيات إسلامية في إدلب منذ منتصف عام 2018 واطلاعي على المناقشات العامة غير الرسمية للجماعات الإسلامية والجهادية هناك، أكد موالون للقاعدة أهمية استخدام إدلب كقاعدة للقيام بعمليات خارجية.

وصلني أنه لم يتم الحديث عن هذه المناقشات علناً طوال سنوات النزاع الثمانية في سوريا.

إن شعور مُوالي القاعدة بالثقة الكافية للحديث عن هذا الموضوع الآن يجب أن يكون مصدر قلق كبير.

لكن لا يمكن اعتبار القصف العشوائي والشامل الذي تشنه قوات الأسد على المنطقة حلاً لمواجهة هذا التهديد.

قد يؤدي ذلك إلى تفاقم الخطر ويزيد من صعوبة التعامل معه وتحديده.

إن قيام الولايات المتحدة بأول ضربة لها، في 30 حزيران/ يونيو الماضي، ضد أحد الأهداف التابعة لتنظيم القاعدة شمال غرب سوريا على مدى السنتين الماضيتين - على الرغم من الحظر الجوي الذي فرضته روسيا على المنطقة– دليل على مدى خطورة التهديد الإرهابي المتنامي هناك.

تنظيم الدولة لا زال قائما لكن رقعة انتشار قواته ما زالت صغيرة حتى الآن

على الرغم من أن تنظيم الدولة قد فقد بالفعل قاعدته الإقليمية – التي كانت تعادل فيما قبل مساحة المملكة المتحدة، حيث كانت تربط بين سوريا والعراق - فقد حافظ على معدل العمليات التي يقوم بها بشكل مرتفع ومثير للقلق في شرق سوريا خلال الأشهر الأخيرة. تشير التقارير إلى حدوث أكثر من 370 هجوماً في شرق سوريا منذ آذار/ مارس الماضي، ينسب معظمها إلى تنظيم الدولة وخلاياه النائمة.

على الرغم من إصرار إدارة ترامب في الوقت الراهن على بقاء الولايات المتحدة في سوريا، بعد الإعلان الأولي للرئيس دونالد ترامب حول اعتزامه سحب القوات الأمريكية من سوريا بشكل نهائي في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، إلا أن بقاءها سيكون محدودا.

وفقا للخطط المعلن عنها، من المقرر الإبقاء على نحو 1000 جندي فقط في الوقت الحالي وسينخفض هذا العدد إلى 400 جندي فقط بحلول خريف عام 2020.

كانت المملكة المتحدة وفرنسا وافقتا على زيادة هامشية لأعداد قواتهما في سوريا (بنحو 10 إلى 15 ٪ لكل منهما)، كما تعهدت بعض دول البلقان والبلطيق بإرسال مجموعات صغيرة من القوات، قد يصل إجمالي القوات غير الأمريكية في سوريا إلى نحو 600 جندي.

على الرغم من أن أكثر من 400 جندي أمريكي من المقرر أن يبقوا بحلول الخريف المقبل، فليس من الواضح كيف يمكن السيطرة على تنظيم الدولة وكبح جماحه؛ والمساعدة في تدريب "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة أمريكيا؛ ودرء التهديدات الخارجية القادمة من سوريا وروسيا وإيران وتركيا؛ وإقناع القبائل العربية بالولاء للمليشيات الكردية.

والأسوأ من ذلك، أنه من الصعب تخيّل أن هذا العدد سيكون كافياً لإزالة شكوك ترامب العميقة بخصوص هذه المهمة. لذا فمن الصعب اعتبار الاستراتيجية الحالية للولايات المتحدة داخل المعاقل السابقة لتنظيم الدولة شرق نهر الفرات مستدامة.

في الوقت نفسه، لا يقوم تنظيم الدولة بعملياته شرق الفرات وحسب، بل إن لديه قوة قتالية كبيرة غربي النهر، داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام تحديدا، وهي المناطق التي لم يولِها النظام أهمية كبرى من الناحية الأمنية منذ أن بدأ بشن عملياته على إدلب منذ نحو شهرين.

الواقع أنه قبل شن هجوم إدلب بفترة وجيزة، تم إطلاق سراح كتيبتين كاملتين تابعتين لقوات النظام بعد أن فرض عليهم مقاتلو تنظيم الدولة حصاراً ليوم كامل في منطقة البادية الصحراوية. دأب مقاتلو التنظيم على نشر الرعب في صفوف قوات النظام والمليشيات المتحالفة معها، في هذه المناطق الصحراوية لعدة أسابيع، وبعد حادث الحصار ذاك، عُقد اجتماع لمناقشة التهديد الذي يطرحه تنظيم الدولة في المنطقة.

تشير التقارير إلى أنه تقرر خلال الاجتماع عدم مواجهة التنظيم ومراقبته ومحاولة احتوائه بدلا من ذلك.

بعد رفضها دعم عمليات إدلب، يبدو أن إيران و"حزب الله" قد وسّعا من نفوذهما داخل المنطقة الصحراوية الوسطى.

إن العمليات التي تقوم بها إيران لها مكاسب غير عسكرية، بما في ذلك نشر التعاليم الشيعية والقيام بحملات تجنيد في المليشيات الشيعية والمؤسسات الدينية والثقافية الإيرانية.

بالمناطق المحافظة في سوريا، من الصعب عدم اعتبار هذا النوع من الأنشطة الإيرانية فرصة لمكافحة تجنيد مقاتلين جدد في تنظيم الدولة.

مصالحات هشة:

بالإضافة إلى إدلب، سيطرت المعارضة السورية في السابق على ثلاث مناطق إقليمية: جنوب سوريا والجنوب الغربي، ومنطقة الغوطة الشرقية في دمشق، وريف حمص. اعتبرت هذه المناطق الأربع من الناحية النظرية مناطق لخفض التصعيد من طرف روسيا وإيران وتركيا خلال مباحثات أستانا في منتصف عام 2017، صممت بهدف الحد من وتيرة العنف في جميع أنحاء سوريا.

أما على أرض الواقع، فقد كان الهدف من هذا التعيين خطة روسية خبيثة لحل مشكل النقص الذي تعاني منه قوات النظام والسماح لها بالسيطرة على هذه المناطق واحدة تلو الأخرى، بدءا بالغوطة الشرقية في الفترة ما بين شباط/ فبراير ونيسان/ أبريل من العام 2018، ثم ريف حمص بين نيسان/ أبريل وأيار/ مايو، وأخيرا جنوب سوريا في الفترة ما بين حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو.

تقع هذه المناطق الثلاث ضمن نطاق ما يطلق عليه "اتفاقيات المصالحة"، حيث أتاحت للناس فرصة البقاء في مناطقهم، شريطة عقد صفقات صلح مع النظام والخضوع له.

تم دمج الجماعات المسلحة التي عقدت صفقات صلح مع النظام ضمن هياكل قوات النظام من الناحية الشكلية، لكنها تخضع في واقع الأمر للوصاية الروسية.

في النهاية، فقد أدت سيطرة النظام على هذه المناطق إلى المزيد من الاضطهاد والتجنيد القسري وانخفاض مستوى الخدمات وتقطعت السبل بالسكان المحليين وسط تنافس الجهات الأمنية المحلية المدعومة من روسيا وإيران.

أصبحت الغوطة الشرقية، على سبيل المثال، "ثقباً أسود"، مليئاً بنقاط التفتيش الأمنية والسجون الروسية السرية ومنشآت التابعة للمليشيات الإيرانية.

في حين وجَد مقاتلو المعارضة أنفسهم مضطرين لقتال رفاقهم السابقين، خاصة في إدلب، حيث قُتل العديد من المقاتلين في جنوب المحافظة خلال الأسابيع الماضية.

إذ لم تكن هناك مصالحات بل أجبر الجميع على الخضوع.

وكانت النتيجة تزايد عدم الاستقرار، خاصة في جنوب سوريا، حيث أعلن مسؤولو أمن النظام مؤخرا عن وجود أزمة، حسب ما جاء على لسان أحد المطلعين. فقد شنت قوات المعارضة العشرات من الهجمات في درعا خلال الأشهر الأخيرة عبر شبكات المقاومة السرية التابعة لها، والقوات التي وقّعت على اتفاقيات مصالحة وتم إدراج أسمائها في قوائم القوات التابعة للنظام.

فقد هدد قائد إحدى مجموعات المعارضة السابقة في درعا، أدهم الكراد، في 23 حزيران/ يونيو بدعم حملة "العصيان المدني" إذا استمر النظام في إرسال مقاتلين من الجنوب للقتال في إدلب.

كما شهدت كل من دمشق ودير الزور اللتين يسيطر عليهما النظام سلسلة من الهجمات بالقنابل وإطلاق نار. ترتبط كل هذه الهجمات بالجذور الأولى للانتفاضة التي حدثت بين عامي 2011 و2012، الأمر الذي يؤكد رسوخ الحماس الثوري في هذه المناطق، حتى لو كان بين أعداد أقل من ذي قبل وبوسائل أبسط.

حتى الآن، لم يبدِ النظام ولا مؤيدوه الروس أو الإيرانيون استراتيجية للتعامل مع هذه الأحداث في المناطق التي يُفترض أنها وقّعت على اتفاقيات مصالحة، فمن الصعب تخيّل تحقيق الاستقرار.

محتلون أجانب وأعمال عنف على المستوى الجيوسياسي:

في الوقت الذي يخضع فيه اليوم نحو 62٪ من الأراضي السورية لسيطرة النظام، تبقّى 38٪ منها خارج نطاق هذه السيطرة. تخضع 38٪ من الأراضي السورية، بدرجات متفاوتة، لأطراف فاعلة سورية خاضعة لدول أجنبية.

إذ تسيطر الولايات المتحدة وحلفاؤها في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة على 28 ٪ من الأراضي شرق وشمال شرق البلاد، بينما تدير تركيا نحو 10٪ من الأراضي السورية، المتمركزة شمال حلب والشمال الغربي.

لقد أدى تدخل كل من تركيا والولايات المتحدة في الصراع السوري إلى خلق العديد من خطوط التماس التي قد تؤدي إلى نشوب صراعات في المستقبل سواء بين الأكراد والعرب؛ أو بين المعارضة و"قوات سوريا الديمقراطية"؛ أو بين الولايات المتحدة وإيران وروسيا والنظام وتركيا؛ أو النظام مقابل كل هؤلاء.

في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة، تسعى كل الجهات الفاعلة إلى توسيع أو تعزيز مكتسباتها في سوريا، حيث يتم رسم خطوط جديدة، ويبقى احتمال إيجاد حل لبعض التوترات القائمة أمراً غير مؤكد في أحسن الأحوال.

من غير المرجّح أن تنسحب تركيا من مناطق انتشار قواتها، على الرغم من كبحها جماح التمرد الكردي في كل من شمال حلب وعفرين. وفي الوقت نفسه، ستبقى الولايات المتحدة داخل سوريا على الأقل في المستقبل القريب. كما إن بعض محادثات السلام (على سبيل المثال، تلك تجري بين "قوات سوريا الديمقراطية" ودمشق) متوقفة في الوقت الحالي، بينما يتم تجميد محادثات أخرى (كتلك التي كانت بين الولايات المتحدة وتركيا). فلم تؤد أي من هذه المحادثات إلى تقدم ملحوظ.

وفي الوقت نفسه، تواصل إسرائيل اعتبار وجود إيران بالقرب من حدودها تهديدا لأمنها، ما دفع بها لشن هجمات على الأراضي السورية.

لا يبدو أن تسليم روسيا لأنظمة الدفاع الصاروخي S-300 إلى سوريا، ونشر قواتها في قاعدة مصياف الجوية في شباط/ فبراير الماضي، قد أدت إلى كبح الأعمال العسكرية الإسرائيلية، التي لا تزال مستمرة منذ ذلك الحين.

بل إن سلسلة من الضربات التي قامت بها إسرائيل ضد أهداف تابعة لإيران وحزب الله في حمص ودمشق في أواخر 30 حزيران / يونيو الماضي، هي أكثر العمليات الإسرائيلية أهمية في سوريا منذ أيار/ مايو من العام 2018.

إن احتمال حدوث تصعيد بين إسرائيل وإيران كبير جداً، خاصة وسط اتهامات دولية بمهاجمة إيران لناقلات النفط، وحادثة إسقاط الطائرات الأمريكية المسيرة، وتشجيع المليشيات العراقية على قصف المنشآت الأمريكية في العراق، وتسهيل الهجمات المعقّدة للحوثيين على أهداف سعودية.

في حالة تزايد التوتر وتصعيد الأعمال القتالية بين كل من الولايات المتحدة وإيران، قد ترى إيران القوات الأمريكية أهدافا سهلة في سوريا؛ الأمر الذي سيزيد من خطورة الوضع ويؤدي إلى نتائج كارثية.

الاقتصاد والعقوبات وإعادة الإعمار:

بالإضافة إلى المشاكل العسكرية والأمنية، تعاني سوريا من النتائج الاقتصادية التي خلفتها ثماني سنوات من الصراع الوحشي، حيث دمر العنف البنية التحتية الحيوية للبلاد، ومحا أي شكل من أشكال الدولة المدَنية، كما أدى إلى فرض عزلة دولية على البلاد من خلال العقوبات المفروضة.

هذا بالإضافة إلى أن معظم موارد الطاقة والزراعة في سوريا هي اليوم تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" والتحالف الذي تدعمه الولايات المتحدة.

أدى الحظر الدولي والعقوبات المفروضة على النفط بالإضافة إلى الهجمات التي تعرضت لها أنابيب النفط البحرية، إلى الحؤول دون وصول ناقلات النفط الإيرانية التي يعتمد عليها نظام الأسد إلى سوريا.

لقد عانت دمشق من أزمة وقود في نيسان/ أبريل الماضي، بعد توقف تدفق شحنات النفط الإيراني إلى سوريا لخمسة أشهر.

يمكن القول إن فساد النظام وسوء الإدارة ساهما كثيرا في تدهور الاقتصاد. ازداد الإحباط والغضب الشعبي بشكل ملحوظ داخل الأوساط الموالية للأسد في سوريا، فقد شهدت الأوضاع المعيشية في الفترة التي تلت الحرب تدهورا كبيرا بدلا من التحسن.

كان الناس على استعداد للتخلي عن أشياء معينة إبان الصراع، لكنهم يُبدون اليوم استياءهم. من غير المرجح أن يؤدي هذا السخط إلى انتفاضة ثانية، إلا أنه معضلة وجودية بالنسبة للنظام في ظل ندرة الموارد وتزايد مطالب مؤيديه.

إن أسوأ ما يهدد آمال تحقيق استقرار في سوريا هو تحدي إعادة الإعمار، فقد قدر البنك الدولي عام 2016 تكلفة هذه العملية بـ 450 مليار دولار، في حال انتهى الصراع بحلول عام 2017، أو 780 مليار دولار إذا استمر الصراع حتى عام 2021.

إذا تلقت سوريا مساعدات دولية لإعادة الإعمار كما حدث في أفغانستان، فستستغرق إعادة بناء البلاد أكثر من 50 عاماً، وفقاً لتقديرات نشرها موقع قنطرة الألماني.

في ظل افتراض عدم وجود فساد ونفقات عالية، وهما شرطان من الصعب تحقيقهما في سوريا.

حتى لو افترضنا ملاءمة الظروف للقيام بهذه العملية، فإن حجم التحدي يبقى هائلاً.

فلبناء مليوني منزل سكني، ستحتاج سوريا إلى استيراد 25 مليون طن من الإسمنت و5 ملايين طن من الحديد كل عام لمدة 10 سنوات، وهي لا تملك لا المال ولا البنية التحتية (الطرق والموانئ ومرافق النقل) للقيام بذلك.

فمزج الإسمنت وحده، يحتاج توفير كميات هائلة من المياه.

بالنظر إلى جرائم الحرب والفظائع التي ارتكبها النظام منذ عام 2011 والتي لا تُعد ولا تحصى، ومعارضته المستمرة لجهود الوساطة الدولية، فلا يوجد سبب يدعو إلى افتراض أن المجتمع الدولي سيخفف من قيوده الاقتصادية على سوريا في المستقبل المنظور.

يسمح الركود والدمار الواسع النطاق والأزمة الاقتصادية وعدم كفاءة النظام وعدم الاستقرار المتزايد، للجهات الفاعلة الخبيثة بالظهور، وهو شيء يجب افتراضه منذ البداية.

سواء كان ذلك من خلال ارتفاع مستوى الجريمة، أو عن طريق أمراء الحرب، أو التمرد المحلي، أو الأعمال الإرهابية الأكثر شمولا.

من المحتمل أن يصبح انعدام الأمن والعنف النتائج الرئيسية للوضع الراهن، وهو وضع لا يزال مرتبطاً بشكل كبير بالقرارات التي اتخذت في كل من دمشق وموسكو وطهران، وليس واشنطن.

تداعيات سياسية:

للولايات المتحدة وحلفائها مصالح في سوريا، سواء اعترفوا أم لم يعترفوا بذلك.

كما لا يمكن اعتبار الهزيمة الإقليمية لتنظيم الدولة أو تباطؤ وتطور الصراع المدني في سوريا، أسبابا كافية لسحب الاستثمار أو القوات أو الطاقات الدبلوماسية من البلاد.

الواقع أن العدد الهائل للتهديدات والتحديات وحجمها في سوريا، يحتّم على كل من الولايات المتحدة وحلفائها مضاعفة التزاماتهم فيها، أكثر من أي وقت مضى.

يجب أن يكون التركيز اليوم على استغلال النفوذ الحالي لوضع الشروط لمفاوضات هادفة.

قد تكون عملية جنيف غير مجدية بالفعل، لكن الوصول إلى تسوية عن طريق المفاوضات أمر ممكن، ولا ينبغي التخلي عنها. لقد مهدت الاجتماعات الأخيرة بين كل من روسيا والولايات المتحدة في سوتشي ونيويورك والقدس، الطريق أمام عملية دبلوماسية مصيرية.

ليس هناك شك في أن روسيا في حاجة للسعي إلى شكل من أشكال التسوية السياسية التي تحظى بدعم الولايات المتحدة.

لن توافق واشنطن دون مقابل. إن مطالب إدارة ترامب الحالية بخصوص سوريا - خاصة فيما يتعلق بإيران - غير واقعية بشكل كبير، لكنها من المفترض أن تكون نقطة لانطلاق المفاوضات مع موسكو. لا يمكن اعتبار هذه الاستراتيجية متهورة، لكنها بالتأكيد ستكون غير مجدية، ما لم تستطع الولايات المتحدة تقديم المزيد من التفاصيل حول ما ترغب في تحقيقه بسوريا، وما الذي يمكن أن تسهم به لتحقيق هذه الغاية.

منذ إعلان ترامب المفاجئ عن عزمه سحب القوات الأمريكية بالكامل من سوريا في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2018، كان المسؤولون الأمريكيون مترددين بشكل كبير في التطرق لأي تفاصيل تتعلق باستراتيجية الولايات المتحدة في سوريا، خوفا من إثارة غرائز الرئيس الساذجة بخصوص هذا الموضوع.

إذا ما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من سوريا وتركها غارقة في حالة الاضطراب التي تعيشها اليوم، فستعود حالة الفوضى السابقة لتقض مضجع الجميع ولن يكون في مقدرة أحد القيام بأي شيء.