الثلاثاء 2017/06/06

هوامير دمشق الجدد..

أعرفه جيداً.. كان شحاذاً يقفُ على مفترق الطرق في الساحة العامّة، وكان موقعاً استراتيجياً ويحسده عليه معظم الشحاذين في مدينتي.

(( أبو حشيش)) هذا اسمه الذي يُعرف به بين معظم أبناء المدينة التي تغفو على ضفة نهر بردى الذي نشفت مياهه وأصبح سريره مجرى لمياه الصرف الصحي بدمشق، لقد كانت ثروته كبيرةً جداً، ولم يكن لأحد من الشحاذين منافسته في طعامه أو لباسه أو حتى سكنه، فقد كان يأكل كل يوم "لفة فلافل دبل" من ساحة المرجة، ويشرب معها كأس لبن عيران، ثم يمضي إلى تلك الزاوية التي طوّبها له التاريخ باسمه، بمباركةِ رجال المخابرات وشرطة السياحة التي لم تكن تستطيع أن تزحزحه منها بقوة ماله.

بعد بداية الثورة السورية، بأشهر، ومسير المظاهرات بشوارع دمشق أصبح الخوف يتملكه من ضياع ثروته فقد داس عليه الثوار مرتين أثناء هروبهم من رصاص قوات النظام وشبيحته، وقرر "أبو حشيش" المغادرة بغير رجعة، فأمواله التي جمعها من موقعه وعمله المتواصل وكده كل هذه السنين، تخوّله أن يجلس في أجمل مدن الدنيا، ولكنّه وبحكم طبيعته قرر الهجرة إلى نيجيريا، والبدء من جديد، وبالفعل استطاع أن يشتري زاوية وسط العاصمة النيجيرية "أبوجا" من شحّاذ وبدأ مسيرته من جديد، وبدأت الغلّة تزيد يوماً بعد يوم.

كان هذا حال معظم شحّاذي البلد الذين هجروها بسبب خوفهم على تلك الصرّة التي خبؤوا فيها تعب السنين، فالأمر الذي انطبق على أبو حشيش في دمشق انطبق أيضاً على "غربول" في حلب، و"التبان" في دير الزور، و"المخشخش" في حمص، مع اختلاف وجهاتهم والزوايا التي اختاروها ليبدؤوا مسيرتهم من جديد.

لم يكن أحداً ليتوقع أن تخلو زوايا هؤلاء الشحاذين، بل كانت مغادرتهم متوقعة ولكن إلى القبور فقط، فمكان الشحّاذ يورّث في بلادي، كما الرئاسة التي آلت لبشار الأسد بعد أن قُبِرَ أبوه في القرداحة.

فما كان من صغار الشحاذين في المحافظات التي غادرها "حيتان الشحاذة وهواميرها" في معظم المحافظات السورية، إلا أن باشروا احتلال أماكن سابقيهم، وبدأت غلّتهم تتضاعف، وخصوصاً مع تسهيلات الأمن والشبيحة لهم بالتجول والعودة إلى مواقعهم التي أصبحت تباع وتشرى، لتزيد من حجم الصرة التي يجمعون فيها، ما يستطيعون نهبه من جيوب الشعب بحجة الحصار والجوع، وعباراتهم، معروفة لجميع السوريين، الطرق المقطوعة، وارتفاع الدولار، و أجور الشبيحة، و .. و.. إلى ما هنالك من العبارات التي يلقيها الشحاذ على أذنيك لترمي كلَّ ما في جيبك وتمرَّ من زاويته بأقل الخسائر.

بالأمس كنت أسير في إسطنبول العاصمة الاقتصادية لتركيا، صادفت في طريقي "فاضل" أحد الشحّاذين المغادرين يحمل جريدة بيديه، ويلف قدماً على قدم، في زاويةٍ من زوايا ساحة تقسيم، كان الجريدة باللغة الإنكليزية، وبحكم معرفته بقدرتي على إجادتها، طلب مني قراءة مقالة لفتت نظره لأنها مرفقة بصورة الدولار، لم أمانع وبدأت بقراءتها.. كان اسم المجلة "إيكونوميست" وهي مجلة بريطانية كانت المقالة التي أرادني "فاضل" أن أقرأها تقول إن الحرب في سورية أفرزت طبقة جديدة من الأثرياء ممن لهم مصالح في استمرار الحرب، وستتضرر مصالحهم هذه إذا توقفت.

كنت أقرأ وكانَ فاضل مستمعاً جيداً لما أقول، تابعتُ قراءتي وقلت: إن الحرب فتحت للذين يتمتعون بعلاقات "مفيدة" بصناع القرار في دمشق ولديهم رغبة في المغامرة مصادر مغرية للدخل بعد أن غادر الأثرياء القدامى ونقلوا أصول أعمالهم إلى الخارج، وإن أعمال الحصار التي ضربها النظام على كثير من مناطق البلاد وفرت فرصاً مباشرة لأصحاب الملايين الجدد في سوريا، ردّد بحسرةٍ " إي والله صحيح".

تابعت قراءتي .. كذلك لعب الانهيار الاقتصادي العام دوراً كبيراً في نشوء هذه النخبة الجديدة من الأثرياء، فقد استمر الاقتصاد السوري يضمحل تدريجيا خلال الحرب، حيث أعاقت المقاطعات الدولية وتهالك البنية التحتية قطاع النفط والغاز الذي كان المصدر الرئيسي لإيرادات الخزينة العامة.

وظلت الحكومة تمول عجزها الكبير في الإيرادات من طباعة الأوراق النقدية ومن احتياطي عملاتها الصعبة، فقد فقدت الليرة السورية أربعة أخماس قيمتها، كما انخفض احتياطي النقد الأجنبي من عشرين مليار دولار إلى مليار واحد منذ 2010.

أصبحت أقرأ وكأنّ المقالَ استهواني... فقد تابعت المجلة في مقالتها أن الخدمات التي يقدمها الأثرياء الجدد الذين ملؤوا الفراغ الذي تركه الأثرياء القدامى تتعلق بجلب السلع إلى المناطق التي تسيطر عليها "الحكومة" ومساعدة "الحكومة" على التهرب من المقاطعة الدولية بإنشاء شركات كواجهات لاستيراد الوقود والمواد الغذائية والكماليات، وأحد هؤلاء الأثرياء الجدد هو المدعو "محيي الدين منفوش" في الغوطة الشرقية تحول من شخص لا يذكره أحد لأنه لم يكن يمتلك أكثر من 25 بقرة قبل أن تبدأ الحرب إلى مالك قطيع يتجاوز ألف رأس من الأبقار وشركة صار إنتاجها من مشتقات الألبان منتشرا في جميع أحياء العاصمة دمشق، بالإضافة إلى قيادته مليشيا خاصة به قوامها خمسمئة فرد وقوى عمل بشرية تصل إلى 1500 عامل.

انتهيت من قراءة المقالة.. لأرى نظرةَ حزن تبدّت على وجه "فاضل" وتمتم قائلاً.. كان يجب ألا أغادر.. وبكى.