السبت 2019/08/17

نقاط المراقبة التركية في عين العاصفة.. كيف سترد أنقرة؟

لم يعُد خافياً أن 13 جولة سابقة من لقاءات "أستانا" حول الملف السوري، كانت كفيلة بسيطرة الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين على ثلاث مناطق عُقد عليها الاتفاق، فيما تتواصل التحذيرات من إمكانية تقدم النظام في محافظة إدلب، التي دخلت بنود الاتفاق منتصف أيلول 2017.

تَعززَ اتفاق رعاة أستانا حول إدلب في أيلول 2018، حين التقى الرئيسان التركي والروسي في منتجع سوتشي على البحر الأسود، وقاما بالتوقيع على ما سمي "اتفاق المنطقة العازلة". سمح الاتفاقان لتركيا بنشر 12 نقطة مراقبة في محيط "منطقة خفض التصعيد الرابعة "، تتوزع بين محافظات حماة وإدلب والريف الغربي لمحافظة حلب، والريف الشمالي لمحافظة اللاذقية.

لطالما نظر أهالي المناطق المحررة في المحافظات الأربع إلى نقاط المراقبة التركية على أنها ضامن حقيقي سيمنع نظام الأسد من مجرد التفكير في خرق اتفاقات التهدئة بين موسكو وأنقرة، غير أن هذه الآمال سرعان ما تبددت منذ الأيام الأولى لكلا الاتفاقين "أستانا وسوتشي"، بل إن تلك المناطق اعتادت على تصعيد كبير يسبق أي جولة من جولات أستانا، حتى إن النظام وحلفاءه قاموا بتنفيذ 3 حملات عسكرية منذ اتفاق سوتشي، آخرها الحملة المتواصلة منذ نهاية نيسان الماضي، والتي تعد الأوسع والأكبر من حيث التكلفةُ الإنسانية، ومن حيث حجمُ المناطق التي سيطر عليها النظام متبعاً سياسةً أبعد من مفهوم "الأرض المحروقة"، بالاعتماد على تمهيد ناري هستيري يحرق المنطقة المستهدفة قبل السيطرة عليها.

المفارقة أن نقاط المراقبة التركية كانت هي الأخرى هدفاً لقوات الأسد، وتعرضت تلك النقاط في "شير مغار" و"جبل الزاوية" و"مورك" بريفي حماة وإدلب، للقصف أكثر من مرة، ما أسفر عن مقتل وإصابة جنود أتراك.

انطلقت الجولة 13 من محادثات أستانا في الأول من شهر آب الجاري، وبعدها بساعات أعلنت روسيا موافقة نظام الأسد على وقف لإطلاق النار في إدلب، ثم لم يلبث النظام بعد أربعة أيام أن أعلن نسف ذلك، واستأنف الهجوم على قرى وبلدات الريفين الحموي والإدلبي، بوتيرة أكبر.

حققت قوات الأسد ومليشياته الطائفية مدعومة بمئات الغارات الروسية، خلال أيام قليلة، تقدماً غير مسبوق منذ بداية الحملة، وفي التفاصيل الميدانية أن النظام صنع قوساً حول مدينة "خان شيخون" جنوب محافظة إدلب، من الجانب الشرقي للمدينة تقدم على محور "سكيك" ومن الجانب الغربي تقدم على محور "الهبيط" حتى بات الفاصل بين طرفي القوس شرقاً وغرباً أقل من 15 كيلومتر، ما يعني أن السيطرة على "خان شيخون" – إن حدثت – ستجعل بلدات ريف حماة الشمالي محاصرة تماماً، وما يعني كذلك أن نقطة المراقبة التركية في مورك، ستدخل ضمن نطاق الحصار الأسدي الروسي.

الخيارات التركية:

ليس موضوع محاصرة نقطة المراقبة التركية -في حال سيطرة قوات الأسد على خان شيخون- رمزياً إلى الدرجة التي تقوم فيها أنقرة بإجلاء عناصر النقطة وينتهي الأمر هنا، إذ يمكن القول إن حدوث ذلك يعني بالضرورة نقطتين مهمتين:

1- توجيه ضربة كبيرة للنفوذ التركي القائم في سوريا، سواء في محافظة إدلب، أو في منطقة شرق الفرات التي تأمل أنقرة بأن تؤسس فيها "منطقة آمنة"، أو في منطقتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، اللتين لن تكونا بمأمن من الأسد في حال استطاع تجاوز وظيفة نقاط المراقبة التركية المنتشرة في الشمال المحرر.

2- من المعلوم أن أنقرة جعلت ملف إدلب أحد أهم نقاط سياساتها في سوريا لعدة أسباب، أهمها أن الحفاظ على استقرار أكثر من 3 ملايين مدني هناك، تجنب تركيا موجة لجوء هائلة لا يمكن أن تتحمل تبعاتها، وهي التي تواجه أصلاً في هذه الأيام تحدي الوجود السوري على أراضيها مع فوز المعارضة ببلديات العاصمتين أنقرة وإسطنبول. فتركيا إما أن تسمح لموجات اللاجئين بالوصول إليها فتواجه أزمة جديدة، أو أن تمنعهم فتواجه أزمة أخلاقية لم تعتد عليها خلال 8 سنوات مضت.

يقول الكاتب التركي "عمر أوزكيزيلجيك" حول هذا : "سيشكل الانسحاب من نقطة مراقبة تركية سابقة تؤثر في استراتيجية الردع التركية بأكملها، والتي تعد مهمة للسياسة الخارجية التركية من شرق البحر المتوسط ​​إلى شمال العراق. وفي حين أن انسحاب القوات التركية قد يكون الهدف الرئيسي لنظام الأسد، فإن الآثار المترتبة على إدلب والمنطقة ستكون مكلفة للغاية بالنسبة لتركيا".

صحيفة "كوميرسانت" الروسية قالت في تقرير لها إن نظام الأسد لا يمكن أن يتقدم في خان شيخون دون اتفاق "تركي روسي"، وأوضحت الصحيفة أن من معطيات هذا التقدم هو أن توقف أنقرة دعمها للفصائل التي تقاتل هناك.

قد يكون في ذلك إشارة إلى اتفاق ضمني بين موسكو وأنقرة يسمح لنظام الأسد بالسيطرة على الطريق الإستراتيجي M5  الذي يربط بين مدينتي حماة وحلب، غير أن افتراضية سيطرة النظام على خان شيخون لن تحقق له التحكم بهذا الطريق الذي يمر كذلك عبر ثاني أكبر مدن محافظة إدلب، معرة النعمان، إضافة إلى سراقب شرق المحافظة، فهل يعني ذلك تنازل تركيا عن القسم الجنوبي الشرقي من محافظة إدلب لصالح الأسد وفقاً لتفاهمات مع روسيا؟

في سياسات الدول كل شيء جاهز، لكن لا يمكن لدولة مثل تركيا أن تقع في فخ نظام مجرم مراوغ كنظام الأسد. صحيح أن تركيا تصنف مليشيات "ب ي د" على قائمة الإرهاب، ولا تفعل مع الأسد ذلك، لكنها تعلم جيداً من الذي صنع "ب ي د"، وتعلم كذلك من الذي دعم في ثمانينات القرن الماضي "حزب العمال الكردستاني" حتى جعل منه قوة عسكرية أزهقت من أرواح الأتراك عشرات الآلاف. أنقرة تدرك جيداً أن نظام الأسد لا يمكن أن يلتزم بأي اتفاق سواء أبرمته روسيا أو إيران أو أي طرف آخر، لأنه نظام يتصرف بعقلية العصابة لا بعقلية الدولة، ومن المؤكد أن السماح له بالتقدم في إدلب لن يجلب الخير للمنطقة، ولن يجعل تركيا في مأمن من المخططات الجهنمية التي تحاك لها.

بغض النظر عن المناشدات الإنسانية اليوم لتركيا بالتصرف عاجلاً لمنع سيطرة النظام على خان شيخون، فإن أنقرة اليوم تواجه في إدلب تحدياً لا يقل أبداً عن التحدي الواقع في منطقة شرق الفرات، والمنطق يقول إن أي تفريط سياسي أو عسكري في إدلب سيغير موازين القوى في سوريا لغير صالح أنقرة التي تملك اليوم نقاط قوة كبيرة في المنطقة، جراء تعاملها المباشر مع الملف السوري.  وهي بالتأكيد لن تسمح بسحب البساط من تحتها لتواجه على حدودها نظاماً يمكن القول إنه المسؤول المباشر عن معظم الأزمات التي تعيشها تركيا.

التصدع الحاصل في جبهات القتال بإدلب وحماة لم يأتِ من قلة عدد المقاتلين أو تراجع إصرارهم على صد الهجمة المسعورة، بل إن الأخبار الواردة من هناك تُجمع على أن نقص المضادات والأسلحة النوعية هو ما أحدث الفارق في ميزان المعركة، وسط ترويج للإعلام الروسي بأن تركيا هي التي منعت وصول تلك الأسلحة لفصائل المعارضة، فهل تتمسك تركيا بنقاط المراقبة وبنفوذها في إدلب لتحقق انتصارات سياسية أخرى في مناطق ثانية؟ أم إن تفاهماتها مع الروس – إن صحّت – ستضرب عمق سياستها الخارجية وتهدد مصالحها في سوريا والعراق والمنطقة ككل؟ .. قد تحمل الأيام أو الأسابيع القادمة إجابة ضمنية على ذلك..