الخميس 2016/01/14

مسعفون على سيارة إسعاف يصارعون من أجل حياة إنسان

مطاردو الموت يتربصون به ، عهد وفاء قطعه المخلصون على أنفسهم دون أن يُلزمهم به أحد .

هذا عهدُ الأحرار وهم على عهدهم محافظون، وعلى دربهم سائرون. يتّم أبناءهم ورمَّل نساءهم ،بكى عليهم آباؤهم وذرفت أمهاتهم دماً على فراقهم.

همهم إطعام الجائع، وكسوة البؤساء، يعيشون حيث رائحة الموت لإنقاذ أرواح الأبرياء.

يعالجون المريض، ويسعفون المصاب، يقتحمون الخطر، ويعيشون في دائرة الموت، لإنقاذ من استطاعوا من الموت.

يموتون ليعيش الناس، يمشون وأرواحهم على أكفهم، يتربصون بالموت ليخلِّصوا من استطاعوا من براثنه.

ألِفوا مطاردةَ الموت ويعشقون التربص به في كل يوم .. يخرجون من بيوتهم وقد لبسوا أكفانهم.

يستعد أبو زياد للخروج لمطاردة الموت قبيلَ الفجر، يمر على أطفاله، يقبلهم قبلة ملؤها الحب والحنان .

ويرسم على وجنتيهم وداعا حاراً، يذيب قلب كل من له قلب.

وفي الغرفة المجاورة يودع والده المسن، يقبلُ رأسه ويديه.

وفي الصالة تنتظره أمه المسنَّة، يرتمي في حضنها الدافئ، يستمد منها ما يحتاجه من رباطة الجأش والشجاعة لما هو مقدمٌ عليه .
وداعاً أماه ..

تودعه وقد أخفَت دمعتها... اذهب وربي يحفظك.

وعند الباب .. تلاقيه رفيقة الدرب، وحبيبة القلب، وتوأم الروح، إنها الزوجة الحبيبة.

تنظر إليه نظرة المحب المودع.

حبيبي هل حقاً أنت راحل؟

صحيح أنك راحل؟

حبيبي لمن تتركنا من بعدك يا بعدَ عمري.

ينظر إلى عينيها المشبعة بدفء الحب .

- حبيبتي استودعتكم الله.. والله لن يضيِّعكم ولن يضيِّعني.

همست إليه: روح وربي يرعاك، فقد استودعتك عند رب لا تضيع عنده الودائع.

يسير نحو الباب ليخرج، ثم يقف برهة.. ويلتفت إلى الخلف، وينظر إلى وجه حبيبته المفعم بالحب والمودة ويشع بنور الإيمان.

نعم ينظر إليها نظرة .. يتزود منها لما هو مقدم عليه.

ثم ينطلق مسرعاً خلف مقود سيارة الإسعاف، يسابق الريح وكأنه في شوق لملاقاة الموت.

وما هي إلا دقائق حتى يصل إلى موقعه الذي منه يتربص بالموت.

فجأة! ينطلق صوت منادي الواجب..

- أجب.

- أجب ، على كل الوحدات الإسعافية في محيط المنطقة "أ" التوجه إلى منطقة الغارة.

وفي لمح البصر ينطلق السبع من عرينه مع زميله يسابق الريح يطارد رائحة الموت.

يصلون وغبار الموت في كل مكان، والفوضى تعج بالمكان ، والأشلاء في كل مكان، واللون الأحمر القاني في كل مكان ، العتمة تحجب الرؤية رغم الشمس في كبد السماء.

يهرولون يسابقون الموت لإنقاذ من استطاعوا من براثن الموت، يقفزون فوق الركام ليبحثوا عن ناجين، يخترقون جدران الموت بين شقوق الركام بحثاً عن أحياء يصارعون الموت.

يعلمون أن الغادرين مازالوا في الأجواء يتربصون تجمع مزيد من الأبرياء ليعيدوا الكرة، ويحصدوا المزيد من أرواح الأبرياء، ورغم ذلك يستمرون في إنقاذ ما أمكنهم من الأبرياء.

وفجأة يسمعون ضجيجاً ولهيباً.. حقداً يملأ الأجواء فيعلمون أنها النهاية " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ".

لم يسعفهم الموت لأكثر من هذا! كفى بها كلمة يلقون بها رباً رحيماً يغفر الذنب، ويجازي بالإحسان إحساناً .

وترتقي الروح إلى بارئها.. نفس ماتت وهي تطارد الموت.

روح حية أحبت الحياة لكل الناس..

روح منحت حياتها لحياة الناس..

روح شريفة طاهرة..

ضحت بكل غالٍ ونفيس.

إن شهداء الواجب بالأمس، الذين قضوا وهم في مهمة إنسانية سامية لإنقاذ حياة الأبرياء ليسوا مجرد أرقام وأسماء في السجلات.

إنهم ضمير الإنسانية الحي، وقد اغتالتهم أيادي من تخلَّوا عن الضمير الإنساني.

نعم ليسوا مجرد أرقام، إنهم شهداء قضوا فداء كل ضمير إنساني حي، إن كان بقي في الإنسانية ضمير حي.

رحمة الله عليكم.. وتقبلكم في الشهداء.