الأثنين 2018/10/29

ماذا لو قتل خاشقجي في دولة غير تركيا؟

أكد جميع المراقبين أن تركيا أدارت ملف اغتيال الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" بحنكة بالغة، وأن الرئيس رجب طيب أردوغان استطاع -بذكاء بالغ- تحويل الجريمة إلى ملف عالمي بشكل غير مباشر، والضغط غير المباشر كذلك على الرياض التي أُجبرت مؤخراً على الاعتراف بالقتل.

يتحدث أردوغان عن المزيد من الأدلة، ويتوعد بكشف الحقيقة كاملة على الرغم من محاولات السعودية دفع "رشوة الصمت"، والغزل السعودي المفاجئ، الذي تحولت فيه تركيا من "دولة شريرة" في أدبيات المحور السعودي الإماراتي، إلى دولة "شقيقة"، كما تحول الرئيس التركي من "أردوغان الإخواني" إلى "صمام أمان" في المنطقة بحسب ما جاء على لسان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

لا شك أن تنفيذ جريمة القتل داخل القنصلية بحد ذاتها شكّلت سبقاً غير في مجال القمع والاغتيالات السياسية، غير أن للحدث خصوصية أخرى ربما لم تلتفت إليها وسائل الإعلام والصحف التي جهدت على تغطية الحادثة منذ يومها الأول مطلع تشرين الأول الجاري.

من سوء حظ ولي العهد السعودي أنه اختار القتل طريقة للتعامل مع الصحفي جمال خاشقجي، مع ما يتمتع به خاشقجي من احترام عالمي واسع لعدة اعتبارات، لعل أهمها أنه يكتب عموداً ثابتاً في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.. الصحيفة العالمية التي يخشى كلماتها الجميع، بمن فيهم رؤساء الولايات المتحدة.

غير أن الاختيار الخاطئ في عملية اغتيال خاشقجي لا يتعلق فقط بالشخصية المستهدفة وطبيعتها، ولا يتعلق فقط بالسيناريو "الأشد غباء" لتنفيذ العملية في مبنى دبلوماسي، بل يرتبط الأمر بالدولة التي تقع فيها القنصلية.  فيما يلي شرح مفصل للأسباب التي جعلت قضية خاشقجي تأخذ أبعاداً استثنائية بسبب وقوعها في تركيا.

1- خطيبة خاشقجي.. تفاعل الإعلام والرأي العام التركي:

في واقع الأمر لم يحسب مخططو ومنفذو عملية اغتيال خاشقجي حساباً لوجود أحد ما كان ينتظره على باب القنصلية قبل دخوله هناك، وهذا ما يفسر الهجمة الشعواء التي شنها الإعلام السعودي والموالي للرياض على "خديجة جينكيز".. خطيبة خاشقجي التركية.

منذ اليوم الأول لاختفائه ساهمت "جينكيز" في الدفع نحو معرفة ماذا جرى لخطيبها، من واقع شخصي بحت لا يتعلق بأي خلفية سياسية، إذ يجب ألا ننسى أن خاشقجي ذهب إلى حتفه في القنصلية السعودية بغية استخراج أوراق تتعلق بزواجه من خديجة، وبثت وسائل الإعلام التركية صوراً لخاشقجي وخديجة وهما يقومان بالتحضير لزواجهما من خلال شراء بيت في منطقة "توب كابي" بإسطنبول الأوروبية، وشراء مستلزمات البيت.

تابع العالم ما تقوله خديجة كشاهد على اللحظات الأخيرة لخاشقجي قبل دخوله للقنصلية. ومن خلال تغريداتها على تويتر، وظهورها على وسائل الإعلام التركية، أخذت قضيتها بُعداً إنسانياً هائلاً لدى الشعب التركي، الذي بات للمرة الأولى يتفاعل بشدة مع قضية لا تتعلق ببلادهم.. لم يكن معظم الأتراك يعرفون خاشقجي أو يسمعون به، وربما لا يعرفون عن السعودية بالكاد سوى أنها بلاد تحوي الحرمين الشريفين، أو أنها دولة نفطية غنية يأتي سياحها إلى تركيا كل موسم صيف. ربما لا يعرفون كذلك أن "بلاد الحرمين" كانت من ضمن دول متورطة في التآمر على بلدهم، لكن ما قادهم إلى التفاعل ومتابعة مستجدات القضية هو البُعد الإنساني عموماً، والتعاطف مع خطيبة خاشقجي المكلومة، التي تتحدث إليهم بلسانهم دون مترجم. تجدر الإشارة هنا كذلك إلى أن الشعب التركي عاطفي بامتياز من جهة، وذو غالبية مسلمة من جهة ثانية، ولذلك باتت الحادثة في نظرهم جريمة نكراء لا بد لمرتكبها من الحساب.

ضغط الشارع التركي انعكس بشكل أو بآخر على وسائل الإعلام التركية، التي باتت عامل ضغط آخر في القضية، ما انعكس بشكل مباشر على مستوى التعاطي الرسمي التركي مع الملف. فالأمر بالنسبة للمسؤولين الأتراك لم يعد مجرد جريمة حدثت على أرضهم، بل إنها خلقت رأياً عاماً غاضباً لدى الشارع التركي.

 

2- وجود كم هائل من وسائل الإعلام العربية والعالمية في تركيا:

يقال إن العالم بات "قرية صغيرة" في ظل وجود الثورة الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تتيح إمكانية الاطلاع على الأخبار في أي مكان من العالم. غير أن لتركيا بالذات خصوصية لافتة في مضمار احتوائها كماً هائلاً من القنوات التلفزيونية والمواقع الإخبارية المحلية والعربية والدولية.

حين يكون الحدث عربياً في تركيا فحدّث ولا حرج.. عشرات القنوات الناطقة بالعربية موجودة على الأراضي التركية، ومعظمها كان نتاجاً لثورات الربيع العربي، وباعتبار أن "مملكة محمد بن سلمان" رمز كبير لموجة الثورات المضادة التي عادت الثورات الشعبية وعملت على إفشالها، فلا بد أن يتلقّف الإعلام العربي في تركيا هذا الحدث باهتمام خاص. ناهيك عن أن الرجل المغدور هنا صحفي، ما يجعل من قضيته لدى زملائه وأبناء مهنته واجباً مقدساً.

تجمعت عشرات القنوات أمام مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، تنقل أصغر التفاصيل وأدقّها، حتى باتت القنصلية بالفعل محاصرة بمئات الكاميرات التي تراقب الداخل والخارج، وأمامها يقف صحفيون يشرحون للعالم أبعاد الجريمة ومستجِداتِها.

في هذا المجال يجب ألا ننسى وجود قناة الجزيرة. تلك القناة التي ظهرت كهدف أساسي في حملة محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ضد قطر، وطالما طالبت دول الحصار بإغلاقها تحت عدة ذرائع. الجزيرة الآن تتابع حدث اغتيال خاشقجي من تركيا، في ظل علاقات مميزة بين قطر وتركيا.. الجزيرة إذن في ميدانها، وجاءت قضية خاشقجي إلى باب الجزيرة على أقدامها... وفقاً لتعليقات بعض المتابعين.

 

3- إرث المؤامرات السعودية الإماراتية ضد تركيا:

نستطيع هنا أن نقول إن حلف السعودية والإمارات لم يزرع طِيباً لدى تركيا، بل إن هذا المحور مسؤول بشكل مباشر عن عدة مؤامرات استهدفت الدولة التركية عموماً وإدارة أردوغان بشكل خاص، بدءاً من مسؤولية الرياض وأبو ظبي عن محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز 2016، وليس انتهاء بالحرب الاقتصادية على تركيا، والتي أكد وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو وقوف "دولتين مسلمتين" وراءها نهاية أيار الماضي.

صحيح أن محمد بن سلمان حاول بشكل أو بآخر التغطية على هذه الصورة حين غازل تركيا في مؤتمر "دافوس الصحراء" بالرياض، وأشار إلى "التعاون المميز" بين الرياض وأنقرة في مجال التحقيقات باغتيال خاشقجي، إلا أن المسؤولين الأتراك ليسوا بهذه السذاجة كي يقدموا تنازلات في مضمار جريمة القنصلية، مقابل إطراءات يعلمون جيداً أنها وليدة الظرف والحاجة لا أكثر.

تركيا هنا لا تتعامل فقط مع الجريمة من بُعد جنائي، فالسياسة حاضرة بقوة، وترتيب الأقدار قاد السعوديين ومحورهم إلى ارتكاب تلك الفظاعة في أراضي دولة لم تجد خيراً من هذا المحور، الذي ينتظر أي حدث صغير يدين تركيا ليركب موجته.

المثير للسخرية هنا أن طبول الإعلام السعودي والإماراتي حاولت -قبل اعتراف الرياض بالجريمة- أن تدين تركيا، وأن تجعل اختفاء خاشقجي إدانة لأنقرة ولأردوغان.

ينبغي ألا نفهم هنا أن تركيا تتعامل مع الملف بطريقة انتقامية ثأرية، فهذا ما لم يحدث في الواقع، بل إن كثيراً من المتابعين سجّلوا أن القيادة التركية تتحرك وفق ضوابط دبلوماسية مُتقنة، على الرغم من قدرتها على استخدام القضية ورقة ضغط كبيرة ضد "محور المؤامرات".

 

4- أردوغان و"العدالة والتنمية".. والواجب الأخلاقي:

ربما نستطيع ضم هذا البند إلى السبب الأول،  فلا عجب أن الحزب الحاكم في تركيا يرسم سياسته وفقاً لنبض الداخل التركي ورؤية الشعب التركي، الذي قلنا سابقاً إنه تفاعل بشدة مع ملف اغتيال خاشقجي. غير أن لدى حزب "العدالة والتنمية" أسباباً أخرى تجعله يضغط باتجاه استجلاء الحقيقة في القضية.

الحزب الحاكم ذو توجهات دينية معروفة، قد يكون براغماتياً كغيره من بعض الأحزاب الإسلامية، غير أن فداحة الجريمة وخصوصيتها قادت الحزب إلى تبنى توجه حازم تجاه منفذي الجريمة. من المهم هنا أن نشير إلى مستشار رئيس حزب العدالة والتنمية، والذي شغل سابقاً منصب نائب رئيس الحزب.. "ياسين أكتاي".. الذي قاد بشكل خاص حملة إعلامية شرسة ضد الدور السعودي في قتل خاشقجي، ومن المهم أيضاً معرفة أن "أكتاي" صديق شخصي للصحفي المغدور خاشقجي.

حول هذا الموضوع بالضبط كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قبل أيام أن العاهل السعودي أرسل الأمير خالد الفيصل أمير مكة المكرمة، إلى الرئيس التركي، وقدم له حزمة من الحوافز من أجل إسقاط قضية خاشقجي، إلا أن الرئيس التركي رفض المساومة على دم خاشقجي، بشكل غاضب، واعتبر العرض "رشوة سياسية". بحسب الصحيفة.

 

إذن.. ماذا لو نفذت السعودية اغتيال خاشقجي في دولة غير تركيا؟

لا شك أن الجريمة هي الجريمة، سواء أوقعت في تركيا أو في سواها، فولي العهد السعودي أعطى أوامره بقتل الصحفي المخضرم داخل حرم دبلوماسي يُفترض أن يلوذ به مواطنو الدولة المغتربين، وأن يكون عوناً لهم لا مكاناً لتصفيتهم، غير أن الأسباب التي ذكرناها وفصلنا القول فيها على عجالةـ يفترض أن تجعل المتابع يتفق معنا في أن وقوع الجريمة في تركيا شكّل عبئاً إضافياً على مرتكبيها. ربما لو وقعت الجريمة في دولة ثانية لأخذت بالتأكيد حيزاً واسعاً، لكن ليس مضموناً أن تخضع تلك الدولة المفترضة لضغوط الترغيب أو الترهيب من قبل السعودية، أو يمكن لتلك الدولة أن تعتبر دخولها في الملف إثارة للمشاكل بلا طائل.