الأحد 2020/01/12

لماذا قتلت الولايات المتحدة “سليماني” في هذا التوقيت؟

قاسم سليماني كان واحداً من أشرار العالم الكبار بلا شك، وكان خبر مقتله شيئاً جيداً للسوريين على الأقل، الذين كان سليماني شريكاً أساسياً لنظام الأسد في قتلهم وتهجيرهم وتدمير مدنهم وقراهم.

أسباب قتله كثيرة وهي نفسها التي يرويها أنصاره على أنها بطولاته، وتلك التي يسوقها أعداؤه على أنها جرائمه، المهم فيها أنها تدلّ على شخصية مارست الإجرام في أعلى مستوياته في عدد من الدول، وداخل دولته في سحق المحتجين على النظام الإيراني، لكن كغيره من الشخصيات ذات المهام التي يحمل بعضها طابعاً من السرية، أو طابع المهام القذرة، فإن تصفيته يلفّها كذلك نوعٌ من الغموض حول أسبابها المباشرة، والتي تبقى أحياناُ غامضة لفترة طويلة حين يسبب كشفها عواقب لا يرغب لا المتورطون بقتله ولا حتى رؤساؤه بكشفها.

الذين قتلوا سليماني ليسوا أقلّ شرّاً منه، ولم يقتلوه خدمة للإنسانية، أو انتقاماً لضحاياه الأبرياء، أو لإرساء العدالة وردع أمثاله، فأمثاله كثر ولا يزالون طلقاء يرتكبون أشدّ الانتهاكات، منهم بشار الأسد، وحسن نصر الله، وآخرون في قيادة الحرس الثوري الإيراني، والحشد الشعبي العراقي، لذا فقتله لم يكن عقوبة له على جرائمه، وإنما لسبب آخر أثار حفيظة الولايات المتحدة، وهي التي حددت الزمان والمكان الملائم لتصفيته، ولتحقيق غاياتها من هذه التصفية.

إذن ما هو الدافع الرئيسي لقتل قاسم سليماني؟

الولايات المتحدة بوجود ترامب وغيره من الرؤساء الأمريكيين يبنون استراتيجياتهم على أمرين اثنين:

الأول: المحافظة على المركز الاقتصادي الأول والأقوى في العالم، لذا يخوضون حروباً اقتصادية ظاهرة وخفية في سبيل الهيمنة الاقتصادية على العالم، ومحاولة تدمير أو تحجيم أي منافس على هذا المركز، ويتمثل هذا الآن في الحرب التجارية القائمة مع الصين، وبالقيود والضرائب التجارية الكبيرة التي يفرضها ترامب على العديد من الدول الأخرى.

الثاني: المحافظة على المركز العسكري الأول والأقوى في العالم بالمثل، ولذا تعتبر نفسها شرطيّ العالم، والمسؤولة عن أمنه بما يحقق مصالحها، وبما يحقق لها أيضاً الهيمنة العسكرية، وتعمل كذلك هنا على إبعاد أي منافس محتمل.

في الأمر الثاني وبالتركيز على وضع المنطقة، وتعلّقه بقتل سليماني، فإن الولايات المتحدة هي التي هندست أمن الخليج العربي حيث توجد الدول الغنية، وأكبر مصادر النفط في العالم، وطوال العقود الماضية لم يستطع أحد منازعة الولايات المتحدة في نفوذها، فقواعدها تنتشر في معظم دول الخليج، ولعبت أدواراً جوهرية في الدفاع عنها مثل أزمة الكويت أبّان الاجتياح العراقي لها، وفي وقوفها إلى جانب دول الخليج ضد التهديدات الإيرانية لها، وهو ما كان يؤمّن لها مئات مليارات الدولارات من صفقات الأسلحة، ومن المبيعات التجارية، والعديد من الأنشطة الأخرى، لكن ومع تنامي التهديدات الإيرانية في الآونة الأخيرة بعد تورّط السعودية والإمارات في حرب اليمن، وبعد القصف المتتابع الذي تتعرض له السعودية من جانب الحوثيين، وأخيراً الاستهداف الإيراني الخطير للمنشآت النفطية السعودية، وتهديدها للملاحة في مضيق هرمز، وتحكّمها شبه المطلق بالحكومة العراقية، إضافة للأذرع التابعة لها سواء في البحرين أو في شرق السعودية، وفي لبنان وسوريا، وشعور الدول الخليجية بعدم وجود بوادر لمواقف حازمة  من الولايات المتحدة لكبح جماح إيران، بل شعورها بالوقوع تحت ابتزاز ترامب بطريقة مهينة أحياناً، وطلب الأموال بشكل علني مقابل الحماية، فقد بدأت دول الخليج بالتفكير في رهانات أخرى لحماية نفسها بدل الاعتماد على الولايات المتحدة كطرف وحيد في هذا الشأن.

أشارت تقارير دولية مهمة إلى بدء تفاهمات لعقد مؤتمر أمن إقليمي على غرار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، تشارك فيه إلى جانب دول الخليج وإيران كلٌّ من روسيا والصين والهند، يتوصل في مراحله الأولى لاتفاق على عدم الاعتداء بين دول الخليج وإيران، وهذا الترتيب الأمني المتعدد الأطراف، سيعمل إلى جانب الترتيب الأمني القائم مع  الولايات المتحدة ولكنه يتجاوزها كطرف وحيد.

تؤكّد هذه التقارير أن سليماني قُتل وهو يحمل رسائل استجابة إيرانية لمبادرة سعودية كان ينوي تسليمها لرئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بعد أن أطلع عليها حسن نصر الله وبشار الأسد، وهو ما يتفق مع تصريحات وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف أن سليماني كان في مهمة سلام دبلوماسية، والتي كذّبها وزير الخارجية الأمريكية بومبيو في تصريحاته قائلاً: " من يصدّق ذلك؟" ، وقال: "نعلم بأن هذا ليس صحيحاً، سبق أن سمعنا مثل هذه الأكاذيب وهذا خاطئ تماما".

لكن حرص الولايات المتحدة أن تصل أولاً إلى موقع الاغتيال وتصادر مقتنيات سليماني يثير الشكوك حول صحّة هذا الأمر. الذي يبدو أن معلومات استخباراتية سرّبت المهمة الحقيقية لسليماني هذه المرة في العراق، كذلك مما يثير الشكوك حرص السعودية على إرسال وفد رفيع المستوى من طرفها إلى الولايات المتحدة فوراً، وهو قد يشير إلى محاولة تلافي انكشاف هذه التفاهمات الجديدة، أو إعطاء تفسيرات مرضية للولايات المتحدة حولها، والذي يثير الشكوك أيضاً هو أن سليماني كان يمكن استهدافه مرات كثيرة، وفي أماكن لا تحرج الولايات المتحدة كما حدث في العراق حيث اعتبر البرلمان العراقي عملية الاغتيال على الأراضي العراقية اعتداء على سيادتها، وصوّت على قرار إنهاء مهمة القوات الأمريكية هناك.

ستبقى المسألة في باب التحليلات والتكهنات إلى أن يتم الإفراج عن الوثائق الرسمية حول دوافع هذه العملية، وهو الذي رفضت الإدارة الأمريكية عرض أي شيء منه على الكونغرس في جلساته الأخيرة.