الثلاثاء 2017/07/04

عكازة الثائر.. وأسطول الشوق

أسطول الشوق انطلق مباغتاً رياح الموت التي عصفت بها ولاتزال، فوصل بالركاب إلى شواطئ ألفوها وألفتهم.. هي شواطئ فراتٍ طالما غنّوا له وغفوا تحتَ أشجار غَرَبِهِ وصفصافه.

يعيشون بمخيم للنازحين على الحدودِ التركية، ويقتاتون حنينهم لكلِّ ما هو مرتبط باسم ديرالزور، فتراهم يفرحون كثيراً عندما يسمعون كلمة "شكون" من زائر أو وافدٍ جديد.

"أبو سليمان" يعيش بقدمٍ واحدة بعد أن بُترت ساقة بقذيفة مدفعية أطلقتها قوات النظام من الجبل المطل على مدينته لتسقط في بيته، واستعاض عنها بعكاز من خشب الحور الذي طالما تحدّث لسكان المخيم عن طريقة صنعها بيديه، وحديثُهُ عنها أشبه ما يكون بحديث فنان عن منحوتته أو شاعر عن قصيدةِ غزلٍ كتبَها، لتساعده بالتمسكِ بأملِ لقاءِ حبيبته التي فقدها إثر قذيفة غدر، وهو على يقين أنه لن يلقاها.

يشعل "جمريّـته" كالعادة كل ليلةٍ ليدفئَ قدَمَهُ التي ما ذاقت الدفءَ منذ فراق أختها، فيجتمع حول ناره أطفال المخيم الذين يبحثون عن الدفء في حديثه عن مدينةٍ كانت تسكنهم ويسكنونها، رغم نعومة أظفارهم، ليبدأ العم "أبو سليمان" بعزف سمفونيته الديرية على مقام الصبا الأشد حزناً بين المقامات الشرقية، وهو ذات المقام لأغنية المولية، وكلماتها الثورية المختومة بـ "ضرب الخناجر ولا حكم العفن بيّه".

يتجول العم "أبو سليمان" بأحاديثه في حارات الدير مبتدئاً بـ "الدلّة" التي تستقبل المسافرين القادمين من دمشقَ كأنّما تسقيهم حدّ الارتواء من عطش البُعدِ، لينتقل بعدها إلى "دوار المدلجي" وتنهال دموعه عند كلِّ ذِكر له، فقد كان يقف في ذلك الدوَّار مع إخوته الثوار في الشهر السادس والسابع من عام 2011 ، ليهتف بأعلى صوته "عاشت سورية ويسقط بشار الأسد"، وتستعر نار "جمريته" وكأنها نار الثورة التي تبحث عمّن قاموا بها، ويشدُّ حديثُ "أبو سليمان" الأطفالَ فقد عاشوا هذه الأيام، ويعرفون تماماً ماذا كان يجري، وكثيراً ما قاطعه أحد الأطفال لذكر حادثةٍ جرت هناك، ويؤكّدها العمُّ بفرحٍ، رغم أنَّه لم يلتقِ بهؤلاء الأطفال ولم يعرفهم إلا في هذا المخيم.

شوّهت قذيفة بشار الأسد جسد الرجل الخمسيني، لكنّها لم تشوّه روحه، ولم تقطع سكاكين تنظيم الدولة ذلك الشريان الذي ينبض بالثورة رغم كل الموت المنتشر في مدينته اليومَ، كما لم تزعزع عزيمته غارات مقاتلات التحالف التي قتلت آلاف المدنيين في مناطق سيطرة التنظيم، ولايزال ذلك الحنين يأخذه إلى دير الزور، رغم كل ما عاناه أثناء رحلة نزوحه منها بقدمه الوحيدة، فقد أوقفه حاجز المليشيات الكردية متهماً إياه بالانتماء  لتنظيم الدولة، معتمدين في تهمتهم على بتر ساقه، ولم يستطع إثبات براءته إلا بعد أيامٍ من السجن والتعذيب للاعتراف بجريمة الانتماء للتنظيم... إلى أن حطّت به قدمه وعكازه في ذلك المخيم.

في نهاية كل سهرة هناك... وبعد انفضاض الأطفال من حوله... وعندما يضع رأسه على المخدةِ ، وهي الشيءُ الوحيدُ الذي اصطحبه في رحلة النزوحِ، تبحر أساطيل الشوق إلى الدير.. مجدافها عكازةٌ مصنوعةٌ من خشب حور الفرات.