السبت 2020/05/02

رمضان.. و”جائحة الجوع”

قبل كورونا ببضع سنين سكن أربعة طلاب سوريين يكملون دراستهم، وتخصصهم في الطب البشري في فرنسا، تآمروا مع بعضهم من قبل ليسكنوا في شقة قريبة من جامعتهم في الضاحية الجنوبية لباريس.

فوجئوا مع فجر أحد الآحاد بمداهمة الشرطة الفرنسية لشقتهم، وفوجئوا بأن أعداد الذين انتشروا من حولهم ومن فوقهم، ومن تحت أرجلهم في بناء السكن يقارب أعداد الشبيحة الذين يداهمون البيوت في المدن السورية.

انبطحوا وتعرضوا وتعرضت شقتهم لتفتيش عميق عميق جدًا وسُحبوا مقيدين إلى مركز الشرطة، وكانت الشبهة بيتاً يتجمع فيه عدد كبير من "الإرهابيين" أو وكراً يؤوي مهاجرين غير شرعيين يكتظون مختبئين في هذه الشقة.

وتبين أن التبليغ أتى من صاحب المتجر (الماركت) المقابل لبنايتهم حيث اعتادوا أن يشتروا منه خبزهم اليومي (الصمون الفرنسي) وكانوا يتناوبون على المتجر مبكرين كل يوم، ليأخذوا حاجتهم من الخبز قبل أن تقل الكمية التي يوفرها المتجر.

كان المتجر يجلب كل يوم ثلاثين (صمونة) يذهب أكثرها وفي بعض الأحيان كلها كل يوم إلى الأربعة السوريين.

لقد توقع صاحب المتجر أن هناك بعدد (الصمونات ) أشخاصًا محشورين في الشقة المشبوهة، فقام بالتبليغ عن ذلك بكل ذكاء وسرية، قد كشف وكرًا للإرهابيين، وفوجئ بعد المداهمة بخيبة أمل كبرى، لم يكن في الشقة سوى تجمع للخبزيين فحسب!

اعتاد صاحب المتجر أن يبيع للفرنسيين صمونة أو صمونتين، وفي بعض الأحيان أجزاء من صمونة واحدة، ولم يخطر في باله أن هنالك من يستهلك الخبز إلى هذه الدرجة.

اعتدنا أن نستهلك الخبز وأن نسعى خلفه بشكل حثيث دائم. في جيلنا، اعتدنا ونحن أطفال، أن ننطلق مع الفجر والبرد الشديد راجلين أو درّاجين لنقف في طابور الخبز الطويل واضعين (نصف فرنك مبخوش) على منصة المخبز الحجرية لنحفظ دورنا ،ونمير أهلنا ونزداد كيل رغيف، إذا لم يشملنا التقنين لأننا غالبًا ما نمضغ ونبلع رغيفاً في طريق العودة.

نحن الخبزيين ، زُرع فينا حبّ الخبز ،وتفضيل الخبز وتقديس الخبز، فإذا رأى أحد منا كسرة خبز في الطريق سارع إليها يقبلها عدة مرات وليرفعها فوق الهامات مع طقوس خشوع وتبجيل ،ولا نعلم لماذا لا نتركها أو حتى نحطمها ،فيأتي إليها زرزور أو عصفور، ولو رأينا بطيخًا مرميًا لما اقتربنا منه، وقد يخرج منا نقد لراميه أو لا يخرج.

الخبزيون العرب، قدّسوا الخبز ولا يجرؤ أحد على إهانة الخبز أمامهم ،وفي بعض البلاد العربية يقسمون على خبزة ليوثقوا أيمانهم !

واقترنت في أذهاننا تسميات للخبز ،بما يدل على الحياة فسمي (بالعيش) وسميت به أسباب الرزق والعمل.

زُرعت في أذهاننا هذه القداسة وهذا الوهم ،وربنا جلّ شأنه يصف كل مرعى الإنسان والحيوان بأنه مبذول رخيص أسود (والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى) هو بلا قيمة عند الله.

ولا أعلم من قيمة للخبز إلا في تضخيم الكرش وتدويره.

دائما استغلوا فينا أننا لا ننكر نعمة الله، ولا ننبذها وقد غفلنا أن كل الطعام إنما هو (متاع) من متاع الدنيا لنصل إلى الآخرة بسلام، نستخدمه ولا نقدسه.

ومن المؤكد أن الطواغيت والمجرمين المستبدين فطنوا إلى ذلك كله، فعززوه ورسخوه واستثمروه، ورسخوا مبدأً خطيرًا مقيتًا (جوّع كلبك يتبعك).

كل الطواغيت أشغلوا الناس بالخبزة وأخواتها من أساسيات غذائية ومعاشية ،فسهلت عليهم السيطرة والهيمنة.

ماذا نقول عن الذي أذعن للسرقة والمال الحرام ،ليؤمن عيشه وهو يقول: قوت يومي وقوت عيالي؟

ماذا نقول عن الراشي والمرتشي والرائش بينهما ،وهو يقول: (أمور لابدّ منها وأصبحت أساسية في التعامل وتسليك سبل العيش و….لقمة العيال؟).

إنها مصطلحات تصب كلها في المعدة وفي وقود المعدة (بدنا ناكل ونطعم أولادنا)

إنها المعدة: مُهلكة مُذلَّة ملايين بل عشرات من الملايين، ذلّت وخضعت واستكانت وركنت لمن جوّعها .

أمم بأكملها رضخت لعدوها لمّا حاصرها وجوّعها.

وأكثر منطقة طبق فيها الحصار والتجويع بشكل ممنهج منظم كانت في سوريا ،طبًّق ذلك حافظ الأسد ،وتفنن به من بعده بشار الأسد برقابة وموافقة من أغلب دول العالم الفاعلة.

وأرجح أن الشعب السوري المنتفض العظيم هو أكثر شعب صبر ،وأكثر شعب تمرد على شعار الطواغيت (جوّع كلبك يتبعك).

وسمعنا من نماذج عديدة من شعبنا من يقول: الصيام علمنا أن نروّض المعدة ونلجمها ،نحن ندربها بالصيام، ونلجمها شهرًا كل سنة وسنتحكم بها إذا وجب عليها أن تستجيب لله ،وألاّ تذعن لغير الله جلّ شأنه.

(أرأيت من اتخذ الهه هواه). وعضوا الأهواء والشهوات الأساسيان هما الفرج والمعدة.

الصيام وقاية وعلاج لجائحة الجوع والمعدة.