الأحد 2019/11/03

رحلةالموت بين دمشق والبوكمال

لم تكن الرحلة سهلة بالنسبة لخولة، إذ إن عليها الخروج من مدينة البوكمال مشياً على الأقدام لتعبر الجسر مع والدتها التي أنهكتها سنواتها السبعون وأخذت تجدّ السير لعبور نهر الفرات عن طريق الـ"عَبّارة" (سفينة كبيرة نوعاً ما)، وذلك بعد أن دمّر التحالف جسور دير الزور.

المكان: مدينة البوكمال

الزمان: تشرين الثاني 2016

كانت خولة على موعد مع مهرّب يعمل على إخراج العوائل إلى خارج مناطق سيطرة تنظيم الدولة في قرية الباغوز التي كان عليها أن تقطع النهر لتصلها، وفعلاً كان لها ذلك، فقد كان المهرب بانتظارها مع أمها على ضفة الفرات الشرقية، وأخذها مع والدتها إلى منزل أشبه بـ"الزريبة" التي يجمع فيها الركاب الراغبين بمغادرة مناطق سيطرة التنظيم.

اكتمل عدد الركاب وكان التعب والجوع والخوف قد أنهك جسد خولة وفتك بجسد أمها، كان هاجس أن يكشف عناصر التنظيم سفرهم إلى خارج مناطق سيطرته أو مايسمونه (بلاد الكفر) هو الأشد إرهاقاً لخولة، أما أمها فقد هدّها المرض ولم تكن لتخاف من الموت بمرضها أو بنصل السيف المسلط على رقاب الفارين من مناطق التنظيم.

مشت الحافلة وسط وجوم الركاب وتمتمة البعض بالدعاء أن ييسر الله أمر هذه الرحلة، دون أن ينفجر بها لغم أرضي يمكن أن يطيح بأحلام خولة بأن تعين والدتها على العلاج والشفاء، فقد كانت الوجهة دمشق، حيث الأطباء الذين تعوّد أهل الدير أن يقصدوهم عند عجز الأطباء في دير الزور عن شفائهم أو اكتشاف مرضهم.

لم تكن تعلم أن الطريق الذي يمتد بين بادية دير الزور ومدينة الحسكة سيستغرق عبوره 3 أيام وذلك لكثرة الحواجز والدوريات العشوائية التي يقوم بها عناصر التنظيم في تلك المنطقة، فقد كان التنظيم في أوج قوته بدير الزور، رغم كل ما يدور في الرقة وريفها، لكنها في نهاية الأمر تنفّست الصعداء حين عبرت السيارة ذلك الحاجز الترابي.

لكنَّ القسوة هي أن تعبر خولة مناطق سيطرة من يمكن أن يذبحوها وأمها لأنها سافرت بدون (محرم) أي أحد الأقرباء المحرمين عليها وعلى أمها معها، لتصطدم بمن كانت تعتقد أنهم المنقذ لهما، وهم عناصر "قسد"، الذين بدؤوا مع ركاب الحافلة تحقيقاً مطوّلاً وسط الشتائم والاتهام بالانتماء لتنظيم الدولة، إلى أن صدر الأمر بتسيير كل الركاب إلى مخيم السد جنوب شرق الحسكة، وعدم السماح لخولة وأمها بدخول المدينة للسفر إلى دمشق، وكانت الحجة أنها وأمها لا تملكان "كفيلاً كردياً" وفق القوانين التي فرضتها "قسد" على الراغبين بدخول الحسكة.

دخولهم إلى المخيم كان أشبه بحكم السجن غير المعلن فلا يحقّ للداخلين فيه أن يغادروه إلا بعد دفع الرشوة وموافقة الضابط والعناصر المشرفين على المخيم، دفعت خولة مبلغ 150 ألف ليرة سورية وسمح لها أن تغادر المخيم في جنح الظلام، لتصل مناطق سيطرة الجيش الحر وتتعرض حينها لاتهامات لكنها من نوع آخر، فقد كان العناصر يوبخون القادمين إلى مناطق سيطرتهم ويتهمونه بالانتماء لتنظيم الدولة أو "ب ك ك"، لم تطل كثيراً مثل باقي المناطق، لكنها كانت مؤلمة بالنسبة لخولة التي لايزال الألم الذي تعاني منه والدتها يرهقها أكثر من كلام هذا ونظرة ذاك.

لم تكن حواجز نظام الأسد بأقل مضايقة من حواجز الآخرين.. فقد كان الدخول إلى مناطق سيطرة بشار الأسد وشبيحته بالنسبة لخولة وأمها، أشبه ما يكون بدخول سجن جلادوه لا يخافون الله في قتل أي شخص يمكن أن يشتبهوا بمعارضته لرأس النظام المجرم… وكانت دقائق انتظارهما مع بقية ركاب الحافلة عند الحاجز الأول للنظام أشبه بساعات انتظار الموت.

وصلت أخيراً لكراج البولمانات في حلب.. لتنطلق بعدها إلى دمشق متناسية كل ما مرّت به من تعب خلال الأيام السبعة الماضية، من المشاقّ التي تعرضت لها على أيدي الجميع دون استثناء، لتصطدم مرة أخرى بحواجز نظام الأسد على الطريق الواصلة بين حلب ودمشق، وكان عليها أن تدفع لكل حاجز مبلغ ألف ليرة سورية عنها وألفاً أخرى عن والدتها كي يسمح عناصر مليشيات النظام للحافلة بالمرور، ولم يكن ذلك يخلو من إنزال أحد الشباب من الحافلة بغرض التفتيش و"التفييش"، وسط خوف الركاب على حياتهم.

ساعات طوال مضت إلى أن وصلت، وسرعان ما نقلتها سيارة أجرة إلى مشفى المواساة بدمشق.. وبدأت رحلة من نوع آخر، كانت هذه المرة بطعم الموت … موت أمها الذي أصبح وفق الأطباء الذين عاينوها رحمة لها.. فالمرض وصل حدود اللا شفاء، حسب قولهم.

بين ضعفها ومرض والدتها.. واتصالات إخوتها وأخواتها من البوكمال ليطمئنوا على صحتها كان عليها أن تقرر المكان الذي ستموت فيه أمها، هل ستنتظر إلى أن تموت في المشفى لتأخذها جثتها إلى البوكمال، أم إنها تأخذها لتموت هناك بين أولادها وأقربائها في بيتها الذي قضت فيه سنوات عمرها الأجمل.

لم يطل وقت التفكير.. فأخذت خولة قرارها بالعودة بأمها التي كانت 15 يوما من رحلة الموت هذه كفيلة بأن تحيل معالمها إلى ما يشبه الخيال نتيجة الضعف والمعاناة، وتوجهت بها إلى كراج البولمانات التي تسير رحلة واحدة أسبوعياً إلى البوكمال لخشية السائقين والمعاونين على أنفسهم وسياراتهم من التنظيم ، ولاسيما أن خولة وأمها ليس لديهما (محرم)، ولكنّ السائق تعاطف مع حالة أمها ووافق على أن يأخذها معه.

انطلقت الحافلة ليبدأ معها عداد عمر أمها بالتسارع وما إن وصلوا إلى حاجز "أبو الشامات" على طريق دمشق دير الزور حتى فارقت والدتها الحياة، وذلك بعد أن استنشقت غبار الطريق الترابي الذي كان الوحيد المسموح منه بعبور الحافلات المتجهة إلى البوكمال.

الصمت والدموع كانوا عنوان وجه (خولة).. لم تصرخ ولم تولول ولم ولم ولم .. كانت دموعها سفيرة الكلمات إلى الركاب الذين قاموا بإفراغ الكرسي الأخير من الحافلة ومددوا عليه الجثة لتجلس بجانب رأس أمها وحيدة تنتظر لحظة الوصول إلى إخوتها وأخواتها كي تضمهم إلى صدرها معلنة صرختها الأولى في وداع أمها.

رحلة الموت كانت ولاتزال أشبه بكابوس يرافق خولة حيثما حلّت وارتحلت، تعيشه يومياً، رغم القصف والتهجير الذي تعرضت له مع أبناء مدينتها (البوكمال).. وهي الآن تقبع بين جدران من القماش الممزق أطلق العالم عليها اسم خيمة، ومكان أشبه بالمقبرة أطلق العالم عليه اسم مخيم.