الخميس 2016/09/15

دير الزور … وجهة نظر غير محايدة

لا جغرافية في سوريا ... لك مجال المسير، خطوة خطوة . لا تلتفت ذات اليمين، ولا تلتفت ذات الشمال، لا تفكر. الدولة تفكر عنك .. الزم الخرابة التي تسكنها، أنت إذن مواطن صالح في زمن البعث .

يضيق المكان حتى يصير بوتقة بعثية، تخرج منها لتستكشف وطنك في الجامعة أو عند الدخول إلى الجيش، خلاف ذلك ربما تجمعك مصادفات محايدة مع ابن محافظة أخرى ، فتجثو على ركبتيك في الجلسة، مستطلعا أخبار البلاد والعباد ، ويدهشك السرد الذي جاء به سندباد السوري، الذي فر من مدينته لشظف العيش ، أو جاء راغما ليدخل جيش حافظ الأسد .

الزمان .. منتصف الثمانينات .. المكان حارتنا في عرطوز .. الوقت قيظ دبق ، ولكن ثمة حركة غير طبيعة في الحارة ، شباب حارتنا يتسللون إلى أحد البيوت عند النازل الجديد .. لا يُسمح للصبية الذين في الابتدائية حضور هذه الجلسات، فثمة ضيف طارئ على الحارة استأجر حديثا ، إنه أبو حديد من محافظة دير الزور، وجاء ليخدم في الجيش ... تسلل شباب الحارة فرادى إلى منزل أبو حديد .. وهذا اليوم تظهر فيه كل هرمونات الفضول عندي .. إذا لم أدخل إلى هذه الجلسة ربما أموت كمدا وقهرا، فحصت المكان جيدا لأحتال على هذا الحَجْر والإقصاء .. سور البيت ليس عاليا وثمة شجرة زيتون ملاصقة للجدار يمكن لي أن أقف عليها وأختلس النظر .. وكان ذلك .

كان المشهد سينمائيا .. جهز أبو حديد الشاي، وجلس الشباب متكئين على الوسائد ، وأخرج أبو حديد العود وبدأت الدوزنة ، ثم انطلق يعزف ويغني أغاني عراقية، كان المشهد بديعا والصوت خلابا ، وكان الشباب يتمايلون طربا ، عندما يغني أبو حديد لياس خضر ، وسعدون جابر .. إلى آخر قائمة المبدعين العراقيين .. لم أكن ببعيد عن نشوة الموسيقى التي افترستني أنا أيضا ، ولكن النهاية لم تكن كما يجب ، .. لقد فقدت السيطرة على نفسي، وسقطت من فوق الشجرة ، ففزع الجالسون وتحلقوا حولي .. ثم أدخلوني الغرفة .. ولكن السقطة جاءت سليمة .. ومن يومها صرت عضوا في جلسات أبو حديد.

دير الزور .. أكبر من جمهورية .. وأوسع من حلم 

لم يكن أبو حديد رجلا عاديا ، أو فتى جاء ليخدم الجيش متأبطا عوده ليعزف الموسيقى كان ذاكرة حية تتحرك في المكان، وكنت مغرما منذ الطفولة بسماع الحكايات .. أزحف إلى المتحدثين كي أستكشف من أفواه الرواة المكان وخصائصه الجغرافية ، والروحية والفكرية ، كان نهر الفرات هو نقطة ارتكاز حديث أبو حديد .. النهر .. ذلك الوفي والغدار في الوقت نفسه، كم افترس شبابا .. كان أبو حديد يخرج من شاطئ النهر ليبدأ بتمشيط المدينة، ابتداء من الجرداق إلى المقاهي، إلى الدلالين في سوق الغنم ، إلى شارع ستة إلاّ ربع ، إلى الجورة والحميدية حيث الحمياماتية، ومعجم الألفاظ السوقية إلى التكية وحضرة الأولياء .. كان كل تفصيل يذكره أبو حديد مدعما بقصة تخلب الألباب، وكأن هذا الرجل يروي من كيس ملئ بالقصص والحكايا .
كانت الدير مكانا حالما تعرفت عليه من روايات أبو حديد .. ثم رحل الرجل .. وانقطعت أخباره .. وظلت الدير مكانا حالما ليس عندي يقين قطعي في تشكيله ثقافيا وفكريا وسياسيا .. حتى كان الدخولُ إلى الجامعة، فكان مجموعة من طلاب دير الزور يتحركون بمنطق أبو حديد ويروون قصصا ديرية، ولكن شكل الرواية والتوصيف والاستنتاج مختلف عن أبو حديد البسيط .. لأول مرة تدرك أن هذه المدينة تقع على نهر من أطول أنهار العالم والسوريون غير معنيين بها .. ولا يشدون الرحال إليها استكشافا ، أو سياحة ، ولأول مرة تسمع شعرا من شعراء من دير الزور وتسمع عن فنانين تشكيليين وممثلي مسرح .. وكتاب قصة قصيرة ورواية وسياسيين كانوا قبل حقبة البعث ثم تم إقصاؤهم ودفنت المدينة معهم .

دير الزور خلاصة اللذة ..

المرحلة الثالثة لاستكشاف دير الزور كانت عند سفري للخليج .. هناك وجدت الشعراء والفنانين التشكيلين وصرنا أصدقاء .. كانت الدير بالنسبة لهم خلاصة اللذة لكل شيء، وهنا ينضج تصور هؤلاء للمدينة، فيبدأ التصور من الثرود والبجارية والكليجة، إلى القصيدة التي يقولونها واللوحة التشكيلية التي نستطلع ظل ألوانها سويا، إلى الحديث عن هسهسات المجتمع الديري، بمنطق نقدي تحليلي ، وكان الاصطفاف دائما إلى جانب البسطاء مهما كانت تصرفاتهم .. وكنت دائما أرى غصا ودمعة هاربة عندما يخلصون لاستنتاج أن الدير تستحق مكانة أكبر من ذلك.

دير الزور من الثورة.. إلى محاول قتل الفكرة .

لم تكن دير الزور جغرافية ونهر وعادات بالنسبة لأهلها ، كانت فكرة ينقلونها إلى كل الأمكنة التي يحلونها، حيث كانت الحالة الثقافية طاغية والحالة الديرية تتملك هؤلاء، فتجدهم يشيدون دير الزور في أي مكان جديد .. لذلك عندما بدأت الثورة وكانت الدير من أكبر المدن التي خرجت في التظاهرات ، أضف إلى ذلك الزخم الثقافي الذي تختزنه، والذي سيكون محركا فاعلا في سياق الثورة كان لا بد للأشرار من الفتك بالفكرة . التي هي دير الزور .. وبصراحة لم أكن متفاجأ عندما شاهدت المظاهرات العظيمة في الدير، وكنت مدركا أن المحرك هو الحالة الثقافية ، وربما سجل أبناء دير الزور سابقة تؤكد هذا الزعم هو إطلاق قناة فضائية منذ بداية الثورة بإمكانيات بسيطة، لأن هذه المدينة تعبر عن نفسها بشكل ثقافي .. لذلك تسلط عليها النظام وتنظيم الدولة لقتل الفكرة.
منذ منتصف الثمانينيات .. وحتى الآن امتدت دير الزور من أبو حديد والعود والأغاني والقصص الشعبية مرورا بعشرات الأصدقاء من دير الزور الذين تختزن ذاكرتي أسماءهم وقصصهم ومروءتهم .. وحتى هذه اللحظة ما زالت الدير فكرة أكبر من مساحة حلم يحملها أبناؤها في كل الأمكنة ويبرعون في نشرها وتسويقها ..

لم أشاهد الجسر المعلق الذي حكى عنه أبو حديد كثيرا منذ ثلاثين سنة .. والذي دمرته همجية النظام .. ولكن أعرف أبو حديد جيدا ، وعلى يقين أنه يجلس في هذه اللحظة في مكان ما في العالم .. يعزف على العود ويصب الشاي للضيوف ويغني لهم ، ويقول لجلسائه :  ( عندنا بالدير البيوت واسعة والشباب يسهرون قدام البيت ، بكرة بس نرجع عازمكم عثرود بامية ومشبك من عند أبو اللبن ) .