الثلاثاء 2017/06/20

حلب بين رمضانين: الحصار وفك الحصار.. والاحتلال

ربما لم يغب عن ذاكرة السوريين حجم الانتصارات التي حققها الثوار في شهر رمضان الماضي ولاسيما في الريف الجنوبي لحلب ، ففي ذلك الريف الذي كان محتلاً من قبل الميليشيات الطائفية والذي يبعد حوالي /30 كم / عن مركز مدينة حلب، خاض الثوار عدة معارك متَّحدين بعزيمتهم وإيمانهم بقضيتهم أقوى وأحدث الأسلحة البرية والجوية ولا سيما سلاح الجو الروسي الذي كان حديث الاستخدام تقريبا في سوريا .

كانت قرى وبلدات "الحاضر والعيس وخان طومان والخالدية والقرّاصي و برنة وزيتان وخلصة ومعراتة والحميرة " محتلة بالكامل، فخطط الثوار حينها للسيطرة على تلك المواقع بدءاً من بلدة العيس التي تحظى بأهمية استراتيجية كبيرة لوجود تلتين مرتفعتين في محيطها تشرفان على مناطق واسعة تصل من جنوب حلب لغربها وحتى شمال إدلب ، وبعد معركة دامت عدة ساعات تمكن الثوار من بسط سيطرتهم الكاملة على العيس وتلتيها وقتل العشرات من قوات الميليشيات الطائفية واغتنام أسلحة تنوعت بين الثقيلة والخفيفة بالإضافة لعدة آليات، لتكون وجهة الثوار القادمة بلدتي " الخالدية وخان طومان " كون الأخيرة تحظى أيضاً بأهمية كبيرة لقربها وإشرافها بالكامل على أوتوستراد حلب دمشق الدولي ولاحتوائها على مستودعات ذخيرة وكتيبة صواريخ .

بدأ الثوار معركتهم للسيطرة على خان طومان والخالدية والمواقع المحيطة غيرَ آبهين بكثافة القصف الجوي والمدفعي الذي تعرضوا له، لتنتهي معركتهم بسيطرتهم على كل المواقع التي خططوا للوصول إليها بعد أن قتلوا أكثر من /70 / عنصراً من الميليشيات الطائفية دفعة واحدة وذلك بعربة ملغمة استهدفت غرفة عمليات خان طومان التي أشرف عليها حينها ضباط إيرانيون .

ليبدأ تخطيط الثوار بعد خان طومان لخوض المعارك الأشرس، فقرية الحميرة هي الهدف القادم، وبالفعل جرت الاشتباكات في تلك البلدة وكسابقاتها أصبحت بيد الثوار بعد معارك عنيفة خسرت فيها الميليشيات الطائفية العديد من العناصر والآليات .

حينها لم يكتف الثوار بتلك الانتصارات المتتالية بل خططوا لمعركة التحدي الأكبر ألا وهي معركة السيطرة على قرية " خلصة " التي كانت معقِلاً ومركزاً عسكرياً " لميليشيا حزب الله " كون هذه القرية تطل على جميع قرى وبلدات جنوب حلب وتعتبر في الوقت ذاته الحصن المنيع لبلدة " الحاضر " المحتلة .

ليكون لمعركة خلصة الأثر والوقع الأكبر في سوريا والتي سميت حينها بمعركة الـ " 100 ساعة " ، حيث جرت الاشتباكات على مرحلتين انتهت الأولى بعد عدة ساعات بسيطرة الثوار على القسم الشمالي من خلصة وقتل العشرات من ميليشيا حزب الله وانسحاب القسم الآخر منهم إلى الجزء الجنوبي من البلدة القريب من قرية " شغيدلة " فأكمل الثوار تقدمهم باتجاه ذلك القسم، واستمرت معاركهم هناك حوالي /90 ساعة / حاول فيها طيران الاحتلال الروسي وطيران نظام الأسد ومدفعياته تخفيف الضغط عن حليفهم ( ميليشيا حزب الله ) إلا أن ذلك لم ينفع، لتنتهي تلك المعركة بسيطرة الثوار على خلصة فانسحبت حينها ميليشيات إيران من بلدتي " برنة وزيتان " باتجاه " الحاضر " دون قتال كون هاتين البلدتين أصبحتا بحكم المحاصرتين بعد سيطرة الثوار على " خلصة ". 

تلك المعارك العنيفة التي جرت جنوب حلب كنت في تغطيتها أنا وزميلي الشهيد أبو اليزيد التفتنازي، شاهدين على جميع معاركها من " العيس" إلى " خلصة " والحديث عن ذلك يطول ..

تبدأ المعارك بعدها على محاور أخرى وتحديداً شمال حلب بعد محاولة قوات نظام الأسد وحلفائه التقدم في الشمال عَقِب خسائرهم في الجنوب لتنتهي بسيطرة قوات نظام الأسد على طريق " الكاستيللو " الشريان الوحيد للمدينة وبذلك يكون الحصار قد فرض على أكثر من /60 / حياً محرراً في المدينة تضم بمجملها قرابة ربع مليون مدني .

وكإعلام ثوري أردنا أن ننقل مايجري في معارك الشمال أي " الملاح والكاستيللو " وشاهدنا كيف سخَّرت روسيا وإيران ونظام الأسد كل ترسانتهم العسكرية للسيطرة على ذلك الطريق ورأينا كيف قُتل العشرات من ركاب سائقي السيارات العامة وسيارات نقل الخضروات والمواد الغذائية التي نشطت في الفترة التي سبقت سقوط الكاستيللو بيد قوات النظام جثث المدنيين تناثرت على ذلك الطريق الذي أصبح ممراً للموت نتيجة لخطورته، شعر الناس حينها بخطر الحصار فأرادوا أن يعدّوا العدة لذلك الأمر الذي لم يخطرعلى بالهم أصلاً، فأكثر من ثلثي أحياء حلب محررة منذ منتصف عام 2012 ..

كنا نعلم بأن حصار حلب إن حصل سينجم عنه نتائج كارثية فهذه المدينة تختلف عن بقية المدن والمناطق المحاصرة، وخاصة بالنسبة إلى عدد السكان المرتفع وانعدام الأراضي الزراعية فيها، حينها استجمع الثوار قوتهم مجدداً وبدؤوا معركة أطلقوا عليها " غزوة الشهيد أبو عمر سراقب " والتي استمرت عدة أيام، سيطر من خلالها الثوار على مواقع عسكرية مهمة جداً أبرزها الكليات العسكرية " الفنية والجوية و التسليح والمدفعية " بالإضافة لمدرسة الحكمة وبذلك نجح الثوار بكسر حصار حلب بعد استمراره لـ /29 يوماً / متواصلة ليُفتح الطريق لداخل المدينة من جهة الجنوب.

وكعادتنا رافقنا أنا وزميلي الشهيد أبو اليزيد الثوار في معاركهم وكنت من أول الداخلين إلى حلب وكان ذلك في الشهر الثامن 2016 ، ولأنه في الساعات الأولى لم يكن هناك طريق سالك ندخله فقد دخلت مشياً على الأقدام برفقة 5 أشخاص عبر مناطق وطرقات متعرجة وخطرة من قرية " الشرفة " باتجاه " الراموسة "، واستغرقت رحلتنا الخطرة حينها حوالي 3 ساعات رأيت فيها الموت عدة مرات، فقذائف المدفعية كانت تُمطر ذلك المكان وكنت حينها أحمل مُعَدّات التصوير وجهاز الكومبيوتر وبعض حاجياتي، سأقف عند هذا الحد من الحديث عن ذلك اليوم لأنه لا يمكن لعقول أو لصفحات أن تستوعبه ..

بعد دخولنا لحلب بدأت معركة من داخل المدينة تهدف الى السيطرة على " معمل الإسمنت " الواقع في المدخل الجنوبي الشرقي لحلب والذي يعتبر من أكثر مواقع قوات نظام الأسد تحصيناً وارتفاعاً . لكن لم تنجح خطة الثوار في السيطرة على ذلك المعمل ربما لسوء في إدارة المعركة وتجهيزها .

بدأ المدنيون يدخلون ويخرجون من حلب عبر الكليات المحررة آنذاك باتجاه خان طومان .. وهذا ما أغضب نظام الأسد وحلفاءه فبدأوا بحرق المنطقة بطائراتهم ومدافعهم لتبقى عشرات الجثث مرمية على ثرى ذلك الطريق لتكون شاهدة إلى الأبد على صمت المجتمع الدوالي الذي يدّعي الإنسانية ..

وبعد اتباع نظام الأسد وحلفائه لسياسة الأرض المحروقة تمكنوا من استعادة السيطرة على ما خسروه بعد معركة استمرت نحو /18 يوماً / متواصلة قتل فيها الثوار أكثر من /1450 / عنصراً بينهم ضباط وقياديون من قوات النظام والميليشيات الإيرانية الطائفية، عندها حالت كثافة القصف بين الثوار وبقائهم في تلك المواقع .. لتدخل حلب في حصار جديد، استمر هذه المرةَ أكثر من /130 / يوماً.

عند إطباق الحصار الثاني فضلت أنا وكثير من الناشطين الآخرين البقاء في حلب، ربما هو الواجب الثوري قد دعانا حينها لأن نبقى في تلك المدينة التي استمات نظام الأسد للسيطرة عليها، في حديثي عن الحصار لن أتطرق لأسرتي وأبنائي الذين تركتهم في الريف الغربي والترسانة العسكرية الروسية السورية الإيرانية التي باتت تفصلني عنهم، ولكن لا يمكنني أبداً أن أتجاهل ما وثقته بعدستي من مناظر شلالات الدماء التي سالت في شوارع حلب، لا يمكنني نسيان أكوام الجرحى التي ملأت أرصفة الشوارع والمشافي، لا يغيب عن ذهني كيف أصبح التجمع في السوق والمسجد والمشفى وأمام المخبز والمدرسة مميتاً .

فذات مرة تجمع 11 مدنياً منهم النساء والأطفال والشيوخ في حي " بستان القصر " لشراء بعض من عبوات " اللبن " فجاءت طائرة روسية لتحولهم جميعاً إلى قتلى وفي قصة مشابهة أيضاً تجمع العشرات أمام مخبز حي "المعادي" لترصدهم طائرة استطلاع فبدأت راجمة الصواريخ باستهداف ذات المخبز لنوثق حينها مجزرة جديدة راح ضحيتها /6 مدنيين / .. حياتنا في حلب كانت مرعبة إلى أبعد الحدود.

طائرات نظام الأسد ومدفعياته وطائرات الاحتلال الروسي لم تترك شبراً من المدينة إلا وقد ألقت فيه دليلاً على حقدها و إجرامها .. فالصواريخ الروسية الارتجاجية المخصصة للتحصينات العسكرية العميقة استخدمت ضد المدنيين في حلب وارتكبت بحقهم العديد من المجازر كما حصل في حي " الصالحين " وغيره والبراميل التي تحوي غاز الكلور السام قتلت خنقاً أسراً بأكمها كما حصل في حي " الصاخور " ناهيك عن عشرات الآلاف من القذائف المدفعية .. كل ذلك القتل والعالم المتخاذل بأسره يشاهد دون أن يحرك ساكناً ..

وبعد اتفاق روسي تركي اقتضى إخلاء مدنيي حلب وعسكرييها إلى الريف الغربي، باشر سكانها بالخروج منذ 15-12-2016 ، وأصبحت حلب "مدينة محتلة" بالكامل من قبل نظام الأسد وروسيا وإيران. هذا ما حصل لحلب بين رمضانين..فهل ستحمل قادمات الأيام أحداثاً جديدة ؟؟