الأربعاء 2017/02/22

تشوركين ..اليد الحمراء والابتسامة الصفراء.. وناعورة الدم

هلك تشوركين.... صاحب الفيتوات الخمس، فيتالي تشوركين صاحب الـ 65 عامًا؛ سيُوارى قبرَه... حاملًا على صدره خمسة أوسمةٍ تاريخية؛ حمراء بلون الدم السوري.

لا أعتقد أن أحدًا من السوريين ينسى ابتسامته الصفراء وهو يرفع يده في مجلس الأمن رافضًا تمرير قرارٍ دولي ليس ليحاكم نظام الأسد أو ليوقف إجرامه، بل فقط ليفرض عقوباتٍ عليه إذا استمرَّ في استخدام العنف ضد شعبه. كان ذلك في الرابع من تشرين الأول عام 2011، بينما كانت أنظار السوريين منذ الصباح ترقُب اللحظة التي سيقف فيها المجتمع الدولي ممثَّلًا بمجلس أمنه ليوقف عدّاد قتلهم؛ رفع تشوركين يده السوداء أمام عيون الإعلام وشاشات التلفزة بابتسامةٍ تشفُّ عن مدى العداء الذي تكنُّه دكتاتوريات العالم لشعبٍ وقف ليقول لا للاستعباد. في ذلك اليوم كانت قد وصلت حصيلة الضحايا الذين قتلتهم قوات الأسد إلى 4147 قتيلًا وهم من تم توثيقهم فقط.

كان العالم وقتها يرى في ذلك تعنُّتًا من روسيا تجاه قضيةٍ محقَّة، بينما كان السوريون يرَون إشارةً لطائراتٍ سوف تُغير عليهم لا يُعرف عددُها كما لا يُعرف عدد ضحاياها.

بعدما رفع تشوركين يده ورضي المجتمع الدولي برمّته باعتراض روسيا، استؤنف القتل وعادت ناعورة الدماء تغرف.

في الرابع من شباط 2012، رفع تشوركين يده من جديد، وتم تعطيل مشروع قرارٍ في مجلس الأمن يحمّل بشار الأسد مسؤولية إراقة الدماء في البلاد. وقتَها تذرعت روسيا بمنع الولايات المتحدة المتحدة والغرب من استخدام القرارات الأممية وسيلة للتدخل العسكري في سوريا. كانت قد وصلت حصيلة القتلى من المدنيين آنذاك 9752 حسب أقل الإحصائيات. وفتح مجلس الأمن الطريق مرةً أخرى أمام آلة القتل العسكرية ضد المدنيين العزّل. وهنا كانت سنةٌ أولى من عمر الثورة قد مضت تقريبًا.

استمرّ الموت يتجول في سوريا ليطال كل بلدةٍ وقريةٍ بل كل منزل، ليعود تشوركين من جديد رافعًا إشارة استمرار سياسة الأرض المحروقة في 19 من تموز 2012، حيث منع صدور قرار آخر في مجلس الأمن يقضي بفرض عقوبات على نظام الأسد، وكانت ذريعة موسكو آنذاك هي الحجة نفسها .. منع الغرب من التدخل في سوريا. وهنا كان قد قُتل أكثر من 25000 ألف سوري مدني. وليتابعَ المجتمع الدولي ممثَّلًا بهيئة الأمم سياسة الرضا والرضوخ للفيتو بحجة أنه قرار سيادي لا يمكن تجاوزُه، طبعًا إلا في حال كانت ضرورات (المصلحة) تقتضي ذلك. وهنا لا مصلحة لدى الدول "الخمس" أو "الخمس عشرة" ترى ضرروةً ملحةً في إنقاذ شعبٍ أعزل أمام آلاتٍ حربيةٍ جرارة بلغت في القتل والوحشية مدىً لم يعرف التاريخ -على الأقل الحديث- له مثيلًا، سواءٌ في ذلك الإعدام الميداني للجنود الذين يمتنعون عن إطلاق النار على المدنيين أو استباحة المدن والقرى بسكانها العزّل وذبح أهلها أو ارتكاب المجزرة تلو الأخرى بالقصف الهيستيري.

ولكن بعد عامين فَطِنَ مجلس الأمن بضرورة إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم حرب، بما أن فاتورة القتل ارتفعت بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ الثورات، فقد أحصت شبكة الثورة السورية حينها 108 آلاف مدني موثَّقين بالأسماء، ناهيك عمن لم يتم توثيقهم. يومها قال أقل المراقبين والمحللين السياسيين تشاؤمًا إن روسيا لن تستمرّ في الإساءة إلى سمعتها الدولية أكثر مما فعلت، وقد استنفدت آخر طاقتها لتحمّل الانتقاد الدبلوماسي ، ولم يعد لديها أي فرصة تمنحها لنظام الأسد الذي تجاوز كل الحدود، وفي الـ22 من أيار 2014 طُرح مشروع القرار على أعضاء مجلس الأمن للتصويت على إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية.. وعادت يد فيتالي تشوركين لتصفعَ وجه المجتمع الدولي من جديد.. مع ذات الابتسامة الصفراء، التي تنضح بالتشفي وطلب المزيد.. فمازالت الفاتورة تحتمل. وحينها دافع تشوركين عن موقف موسكو بأن هذا المشروع من شأنه أن يُضعف فرص الحل السلمي (للأزمة السورية).

وتابعت رحى الحرب.. التي لم تتوقف أساسًا..دورانَها، ولكن بوتيرة أعلى، منتشيةً ومُفعَمةً بالتعطش للمزيد من دماء المدنيين. لمَ لا.. وقد نالت جائزتها الرابعة من مجلس الأمن لتتجاوز هذه المرة ربع مليون قتيل -أيضًا على أقلِّ تقدير.

يد تشوركين ارتفعت مرة خامسةً في الثامن من تشرين الأول 2016، عندما أجهضت روسيا بالفيتو مشروع القرار الفرنسي الإسباني، والمتعلق بوقف إطلاق النار في حلب، بعد أن صوت لصالحه 11 بلداً، فيما عارضه بلدان ومثلهما امتنع عن التصويت.

وليس بعيدًا زمنيًا عن ذاكرتنا ما جرى في حلب من مآسٍ يندى لها جبين الإنسانية ، وبذلك طبعًا تجاوزت عجلة الموت حاجز نصف المليون قتيل.

ولو أردنا التعريج على بعض المجازر التي ارتكبها النظام أو داعموه لطال بنا المقال، ولكن لا داعي بالنسبة للسوريين إعادة سرد أصناف القتل والعذاب التي ذاقوها، فهم يحفظونها عن ظهر قلب، أكثر من أسماء أولادهم الذين قضَوا فيها.. ويكفي للتذكير مثلا: مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية 1400 قتيل معظمهم أطفال... والصور التي سرّبها "قيصر" (وسمَّيت جريمة العصر)، 11000 قتيل نتيجة التعذيب ... وأرجو أن يكون آخرها تقرير (المسلخ البشري) الذي وثقته منظمة العفو الدولية قبل أيامٍ قليلة، والذي يوثق 13000 ألف قتيل، تم إعدامهم دون محاكمات؛ في سجن صيدنايا وحده، ومازالت الإعدامات مستمرة حتى الآن.

كل هذا لم يجعل من القضية السورية أمرًا مُلحًّا لدى المجتمع الدولي يستحقّ أن تلجأ الدول صاحبة القرار وأخص بالذكر الولايات المتحدة الأميركية لتتحركَ خارج مظلة مجلس الأمن ،كما فعلت في قضايا أقل بكثير من مقارنتها بالقضية السورية، وتتجاوز الفيتو الروسي وتفرض حمايةً دولية للمدنيين على أقل تقدير.. فضلًا عن مجابهة النظام عسكريًّا.

وفي النهاية هلك فيتالي تشوركين.. الذي لم يكن يوفر فرصةً إلا واستغلها في بث رسائل الكراهية والحقد؛ كانت تنضح بها ابتسامته التي حفظها السوريون تمامًا. ففي كل ابتسامة.. فاتورة دمٍ جديدة.