الأربعاء 2018/06/27

تركيا والسعودية: الهجرة من العلمانية وإليها

شهد تاريخ يوم الأحد 24 حزيران 2018 حدثان يُعدّان تاريخيين في تقويم بلدين مختلفين.

في السعودية شكّل هذا التاريخ ولادة مرحلة جديدة لدى مواطني المملكة، تمثّلت بدخول قرار السماح للمرأة بقيادة السيارة حيّز التنفيذ. وقد لاقى ذلك ترحيباً كبيراً لدى بعض الأوساط السعودية، فيما اعتبره كثيرون ذراً للرماد في العيون، وتغطية لحقيقة "الإصلاحات" التي يحاول بن سلمان الترويج لها منذ وصوله لولاية العهد.

أما في تركيا فقد شهد التاريخ المذكور دخول البلاد في مرحلة تاريخية جديدة، تطوي فيه صفحة بدأت منذ قيام الجمهورية عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، الذي صنع في تركيا نظام حكم يحاول حزب العدالة والتنمية منذ سنوات أن يتحرر من قيوده، وقد بدأ الأمر فعلياً مع نجاح خطوة تعديل الدستور في 2017 عبر استفتاء شعبي، ودخل مرحلة التنفيذ بفوز رجب طيب أردوغان بانتخابات الرئاسة. حدثان مهمان ربما يستطيع المتابع أن يعدَّهما دليلاً على تغيير كبير في الدولتين.

هروب من رداء "الوهابية" وإصلاحات في القشور:

يمثّل قرار السماح للمرأة لقيادة السيارة في السعودية حدوث تغيّر اجتماعي كبير في المملكة التي تُحكم منذ قيامها بما يُطلق عليه "السلفية الوهابية"، حيث كانت أحكام المفتين السعوديين تمنع هذا الأمر لما يشكله من "فتنة" في مجتمع لا حظّ فيه للمرأة إلا في منزلها. ما إن قرر بن سلمان تغيير القرار حتى تهافتت الفتاوى التي تثبت أن قيادة المرأة للسيارة ليس فيها مانع شرعي، وأن ولي الأمر يستطيع تطبيق مثل هذا القرار.

ربما يبدو التراجع عن منع المرأة من مزاولة قيادة السيارة حدثاً صغيراً أمام منعطفات كبرى تمرّ بها المنطقة، لكنه لا يعود كذلك إذا تم ربطه بالواقع الجديد الذي يحاول ولي العهد فرضه في مملكته قبيل وصوله إلى العرش.

في آذار - مارس الماضي وجّه ابن سلمان أولى ضرباته لمنهج حكم الآباء والأجداد، حين قال لصحيفة "واشنطن بوست" إن السعودية نشرت الوهابية بطلب من الحلفاء لمواجهة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، واعتبر الرجل أن "الحكومات السعودية المتعاقبة ضلت الطريق". ثم في نيسان الماضي سأل صحفي في صحيفة "ذا أتلانتك" الأميركية ولي العهد السعودي عن "الإيديولوجيا الوهابية" فأجاب بن سلمان : "هذه الوهابية التي تتكلم عنها، اشرحها لنا. نحن لسنا على علمٍ بها. ولا نعرف عنها شيئاً".

إذا تم ربط هذه التصريحات التي يتنكر فيها بن سلمان لمنهج حكم به آباؤه وأجداده، مع التغييرات التي أدخلها في بنية المجتمع السعودي، نستطيع أن نقول إن بلاد الحرمين تشهد "انقلاباً ناعماً" يقوده بن سلمان، يريد من خلاله أن يحوّل البلاد إلى نمط الحكم العلماني، أو فلنقل : العلماني القبَلي، وهذا ما أكده السفير الإماراتي في واشنطن "يوسف العتيبة" في تموز – يوليو 2017 حين قال في مقابلة مع قناة "بي بي أس" (PBS) الأميركية إن ما تريده الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين للشرق الأوسط هو "حكومات علمانية"، معتبراً أن ذلك "يتعارض مع ما تريده قطر".

منظمات حقوق الإنسان وعلى رأسها منظمتا العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش لم تقرأ التوجه الجديد لولي العهد السعودي على أنه "إصلاحات حقيقية" تنقل المملكة إلى ضفة من الحريات السياسية والدينية والاجتماعية.

في تقرير لها صادر في شهر شباط- فبراير 2018، قالت منظمة العفو الدولية، إن السلطات السعودية زادت من وتيرة استهداف معارضيها منذ تولي الأمير "محمد بن سلمان" ولاية العهد، مؤكدة أن الحديث عن انفتاح في السعودية لا يحجب حقيقة الأوضاع في البلاد.

وأوضحت المسؤولة عن الحريات العامة والفردية في منظمة العفو الدولية "كاتيا رو"، في تعليق بعد عرض تقرير المنظمة لعام 2018، إن "ولي العهد محمد بن سلمان كان قد أعلن إصلاحات تهدف إلى المساهمة في انفتاح وتحديث البلاد، والمثال الأكثر رمزية هو الترخيص للنساء بقيادة السيارات". وأشارت إلى أن ذلك يجب ألا يحجب "الاعتداءات الخطيرة" على حقوق الإنسان الجارية في السعودية والتي تتخذ شكل قمع عنيف للمجتمع المدني، إذ يتم استهداف المعارضين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين ومهاجمتهم بهدف إسكاتهم.

وفي شهر أيار – مايو من العام الجاري أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريراً يتناول الموضوع نفسه، بعد احتجاز السلطات السعودية 7 ناشطين في مجال الدفاع عن حقوق المرأة. وقالت المنظمة الحقوقية الدولية إن من بين الشخصيات المعتقلة ناشطاتٍ اشتُهرن بدفاعهن عن حق المرأة بقيادة السيارة ومطالبتهن برفع وصاية الرجال على النساء.

تركيا.. الهروب من إرث أتاتورك:

في تركيا.. مثّل فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحقيقاً لفحوى التعديلات الدستورية الأخيرة، والتي نقلت البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، ما يُعد التغيير الأكبر منذ قيام الجمهورية التركية عام 1923.

التعديلات الدستورية جاءت بعد استفتاء شعبي كما هو معلوم، وهذا يعني أن القرار طرح من قبل حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، ونال ثقة أكثر من نصف الشعب التركي، في دولة تحكمها المؤسسات، ولا تزال تمثّل نوعاً من أفضل أشكال الديمقراطيات في منطقة يغلب عليها حكم الديكتاتوريات العسكرية المطلق.

وبالرغم من الانتقادات الموجهة للنظام الرئاسي في "تمكين" قبضة أردوغان على السلطة، إلا أن الواقع يقول غير ذلك في جمهورية خضعت منذ نشأتها لانقلابات عسكرية، وتعارض بين الرئيس ورئيس الوزراء، أسفر في بعض الأحيان عن وقوع أزمات اقتصادية.

يقول مراقبون إن التعديل الدستوري شكل الإسفين الأول في نعش نظام الحكم الأتاتوركي، ويرى هؤلاء أن تركيا تتخلص شيئاً فشيئاً من "العلمانية الصارمة" التي فُرضت عليها منذ نحو مئة عام. يعود الفضل في ذلك إلى سياسة "الإسلام المعتدل" الناجحة التي اتبعها حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه عام 2001، بالإضافة إلى سياسة رجب طيب أردوغان، الذي جعل علامته الأكبر في البلاد إنجازات اقتصادية حوّلت تركيا من دولة فقيرة إلى بلد على مصافّ الدول العظمى. لم يعد الحديث عن "تركيا العثمانية" محرّماً، بل صار المسؤولون يحثّون الشعب التركي على قراءة تاريخهم، والارتباط بشكل أكبر مع الامتداد المسلم لتركيا في البلاد العربية والعالم.

اجتماعياً لم يعُد ثمّة خوف من التديُّن، الذي كان جريمة على منهاج أتاتورك، بل استطاع أردوغان ومن ورائه حزب العدالة والتنمية أن يحصل على ثقة الناس، ما انعكس على صناديق الاقتراع التي تأتي نتيجة الفوز فيها منذ عام 2002 لصالحه.

موافقة غالبية الشعب التركي على التعديل الدستوري، ثم فوز أردوغان بنسبة فاقت 52% من أصوات الناخبين، ليست مجرد تغيّرات سياسية تمرّ بها البلاد أو تستهدف تغيير نمط الحكم، إنها تعبر عن تغيرات كبرى في بنية المجتمع التركي، وهذا ما جعل مرشّح حزب الشعب الجمهوري المعارض "محرم إينجه" يبدأ حملته الإعلامية قبل الانتخابات من المسجد، في خطوة غير مسبوقة من مرشّح الحزب الذي يُعد حِصن الأتاتوركية في البلاد.

الخلاصة في الأمر أننا أمام تجربتين للتحول التاريخي في كل من السعودية وتركيا، أما التجربة الأولى ففيها يحاول القائمون عليها تغيير نمط قامت عليه المملكة منذ نشأتها، وتحويل البلاد إلى نظام أقرب للعلمانية. لا يمكن أن يتم ذلك عبر سنوات قليلة بالطبع، لكن ولي العهد السعودي باشر فعلاً الخطوات الأولى نحو هذا المشروع، ويتزامن ذلك مع حملة قمع لا هوادة فيها ضد المعارضين، ما يجعل جميع الإصلاحات الظاهرة شكلية فقط. بينما تحمل التجربة الثانية في تركيا قراراً حقيقياً بالتخلص من سطوة العلمانية الأتاتوركية، ويترافق ذلك مع إبقائها دولة قانون ومؤسسات.