السبت 2018/01/27

القصة كاملة : “غصن الزيتون”.. آخر الطب الكيّ

مقدمة:

منذ بدايات الثورة الشعبية في سوريا عام 2011، أتقن نظام الأسد وحلفاؤه اللعب على وتر خلط الأوراق، وإدخال اللاعبين الإقليميين والدوليين في خيوط متشابكة المصالح والتهديدات.

عملت أنقرة في بداية الثورة على استخدام العلاقة الشخصية التي تربط بين رئيس الوزراء التركي آنذاك "رجب طيب أردوغان"، وبشار الأسد، وحرصت على توجيه نصائح تُخرج الجارة الجنوبية من حالة فوضى متوقّعة ستهددها، ومع وجود نحو 900 كم من الحدود التي تجمع الدولتين أدرك الأتراك أن ما سيحصل في سوريا سينعكس حتماً عليها.

لم يسمع بشار الأسد نصائح أردوغان، ومضى سريعاً في مواجهة المتظاهرين بالحديد والنار والقتل، وهنا رأت تركيا نفسها في موقف أخلاقي صعب جداً يحتّم عليها إما الوقوف مع مطالب الشعب السوري المشروعة وبالتالي خسارة التقارب الأخير مع دمشق، أو تبرير بطش النظام والوقوف معه وبالتالي السقوط في خسارة أخلاقية عميقة.

لم تتردد أنقرة في تفضيل الخيار الأول، وأصبحت خلال زمن قصير من أكبر المعارضين لسياسة الأسد إقليمياً ودولياً، وخلال أشهر قليلة فتحت حدودها للمدنيين الفارين من آلة الأسد العسكرية، وسعت إلى احتضان المعارضة السياسية السورية في دول الشتات.

على أية حال.. لم يَطُل الأمر ببشار الأسد كثيراً ليقوم "بمعاقبة" تركيا على وقوفها إلى جانب المظلومين، ويطبّق جزءاً من تهديداته الشهيرة "بإحراق المنطقة". أخرج الأسد ورقة الأكراد من صندوق أسود ورثه عن أبيه، قرأ ما جاء فيها جيداً ثم باشر بتنفيذ "الخطة الشيطانية".

 

المرحلة الأولى : الأسد يستميل الأكراد:

بدأ الأمرُ بقوانين ومراسيم تخصّ إعطاء الأكراد السوريين جنسية حرمهم نظام البعث منها عشرات السنين، كانت بمثابة "الطُّعم" الذي يُبعد الأكراد نوعاً ما عن الحَراك السلمي، ويصنع لهم أهدافاً خاصة بعيدة عن الأهداف العامة التي كسر السوريون حاجز الصمت لأجلها. في تلك الأوقات كان نظام الأسد ينسّق لتدبير خطة أبعد من هدف إسكات الأكراد، خطة يضرب فيها "عدة عصافير" بحجر واحد كما يقول المثل العربي.

والجدير بالذكر أن النظام لم يواجه المظاهرات والتحركات السلمية في المدن ذات الغالبية الكردية في الشمال الشرقي لسوريا بالطريقة التي كان يقتل الناس بها في دمشق وحمص ودرعا ودير الزور والبلدات المنتفضة، تخرج المظاهرات في القامشلي وعامودا وكوباني والمالكية دون أي تدخل أمني أو عسكري.

 

المرحلة الثانية : قوات الأسد تنسحب من مناطق في الشمال السوري لصالح "ب ي د":

في الوقت الذي كانت مقاتلات الأسد تدكُّ فيه دير الزور وحلب وحمص وريف دمشق في صيف العام 2012 انسحب النظام بشكل مثير للريبة من المدن الكردية في الشمال السوري، وترك فيها تمثيلاً رمزياً يتعلق بالدوائر الرسمية والأفرع الأمنية.

"حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" المعروف بتنظيم "PYD"، هو حزب كردي يساري نشأ عام 2003 امتداداً لحزب العمال الكردستاني "PKK"، وتعّرض منذ نشأته للاضطهاد والملاحقة من قبل نظام بشار الأسد، وهذا ما دفع قيادات الحزب إلى الإقامة في دول الخارج.

في العام 2010 تسلّم قيادة الحزب المهندس الكيميائي "صالح مسلم"، الذي اعتقله النظام خلال أحداث القامشلي ربيع العام 2004، وأمضى في السجن والتعذيب سبعة أشهر، توارى بعدها عن الأنظار ليقيم آخر الأمر في منطقة جبال قنديل شمال العراق، التي تتخذها مليشيات حزب العمال الكردستاني معقلاً لها.

بعد شهور من اندلاع الثورة في سوريا، وصل "مسلم" إلى منطقة القامشلي بشكل غامض، ودخل بحزبه "ب ي د" في تحالفات واتفاقات وخلافات مع الأحزاب الكردية الموجودة على الساحة، ليصل من خلال سياسة الاعتقال والاغتيالات والتفاهم مع أفرع النظام الأمنية إلى استلام زمام المبادرة في مناطق الأكراد شمال سوريا، وتأسيس مليشيات مسلحة عرفت باسم "وحدات الحماية الكردية"، تولى مهمة تدريبها مقاتلون وقيادات من حزب العمال الكردستاني، المصنف على قائمة الإرهاب أميركياً وأوربياً وتركياً.

قام بشار الأسد في واقع الأمر بإعادة خطوط الاتصال مع العمال الكردستاني، والتي كانت مقطوعة منذ قيام حافظ الأسد بتسليم زعيم الحزب عبد الله أوجلان إلى أنقرة في العام 1999،  ويبدو أن الطرفين " الأسد وPYD " اتفقا عبر مفاوضات سرية على أهداف تجمعهما وتحقق مصالحهما، مع التركيز على ظهور "PYD" بمظهر المعارض للأسد كي تكتمل تفاصيل الخطة المرسومة.

سال لعاب صالح مسلم أمام العرض الذي تلقاه من الأسد، الأرض مهيّأة له بعد انسحاب النظام، واقتصاد المنطقة الغنية بالنفط والقمح والقطن كفيل بالمضي قدماً في مشروع الحزب، أما السلاح فإن النظام وفّره لـ" PYD" بسخاء.

 

المرحلة الثالثة: الولايات المتحدة تتبنى " ب ي د":

في العام 2013 دخلت مليشيات " ب ي د" في مواجهة مباشرة مع "جبهة النصرة" التي تمددت من محافظتي الرقة ودير الزور باتجاه ريفي الحسكة الشرقي والشمالي، وهنا بدأ السلاح يتدفق لمليشيات "ب ي د" من جبال قنديل، ومن شمال العراق، ومن نظام الأسد كذلك. قوات الأسد كانت تقاتل إلى جانب "ب ي د" بشكل علني، ونجحا معاً في صد "جبهة النصرة" عن التقدم في ريف الحسكة الشمالي.

كان ظهور تنظيم الدولة في الشرق والشمال السوري عام 2014 تاريخاً فارقاً بالنسبة للتمدد الكردي، إذ ظهر على ساحة الأحداث داعم جديد لمليشيات صالح مسلم. أصبحت "ب ي د" بديلاً لواشنطن عما يسمى "المعارضة المعتدلة"، وأصبح مصطلح "دعم المعارضة" على اللسان الأميركي يعني تنظيم "ب ي د" التي بدأ السلاح الأميركي يتدفق عليها تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة. وهنا لم تأخذ واشنطن في الحسبان عدة معطيات مهمة :

أولاً .. لم تجد الولايات المتحدة حرجاً في دعم تنظيمٍ تابع لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه واشنطن على قائمة الإرهاب.

ثانياً: تجاهلت واشنطن أن التنظيم "الإرهابي" الذي تدعمه يعد طرفاً معادياً لحليفتها تركيا، شريكتها في حلف الناتو. ورغم الإلحاح التركي على عدم محاربة تنظيم إرهابي بتنظيم إرهابي آخر، إلا أن الولايات المتحدة واصلت دعم "ب ي د" بشكل منقطع النظير.

ثالثاً: من الخطورة بمكان أن واشنطن تدرك جيداً عمق العلاقات بين "ب ي د" ونظام الأسد، وهنا باتت مصداقيتها على المِحك، إذ إن الدعم الذي تقدمه للوحدات الكردية هو دعم صريح لنظام الأسد، ولا يغيب عن الأذهان تصريح مستشارة الأسد "بثينة شعبان" التي قالتها صراحة: "تقدم الوحدات الكردية في الشمال السوري يهمنا؛ لأنها جزء من الجيش السوري".

يبدو الأمر غاية في الغرابة، فواشنطن التي تدعي وقوفها مع الثورة السورية لم تعط الثوار السوريين على مدار أعوام أي سلاح يغيّر المعادلة على الأرض، في الوقت الذي تُغدق فيه السلاح على الوحدات الكردية التي تتبع حزباً إرهابياً من جهة، وتتحالف مع الأسد من جهة أخرى ..مَن المستهدَف إذن؟

الجواب غاية في البساطة، فالولايات المتحدة تريد إجهاض الثورة السورية من جهة، وإبقاء "ب ي د" عامل ضغط وابتزاز ضد تركيا التي بدأت تدفع ثمن مواقفها بتهديد أمنها القومي.

المرحلة الرابعة : "ب ي د" نحو مشروع "الدويلة العنصرية":

في العام 2015 أعلن تنظيم "ب ي د" قيام ما يسمى بـ "الإدارة الذاتية" معتمداً على دعم أميركي سخي، وعلى انتزاع المدن والبلدات التي طرد منها تنظيم الدولة، وفي سبيل الوصول إلى حلم "الدويلة الكردية" سار التنظيم على عدة مسارات:

1- استخدام سياسة التهجير العرقي للعرب والتركمان في مناطق الرقة والحسكة وحلب.

2-تغيير أسماء المدن والقرى العربية إلى أسماء كردية ترويجاً للمشروع القومي الكردي.

3-توسيع مناطق النفوذ عبر عدم الاقتصار على المدن التي يسيطر عليها تنظيم الدولة، واحتلال مدن وقرى يسيطر عليها الجيش السوري الحر في ريف حلب الشمالي بدعم روسي جوي، كما حصل في مناطق منغ وتل رفعت ودير جمال. لا يغيب عن ذاكرة السوريين أن مليشيات " ب ي د" في عفرين قامت بعرض جثث قتلى الجيش الحر الذين دافعوا عن مدينتهم "تل رفعت" على شاحنة كبيرة جابت شوارع عفرين، في مخالفة صريحة لأبسط مبادئ الإنسانية وقوانين الحرب التي طالما يتغنى بها داعمو "ب ي د" الأميركيون، دون تطبيق أي منها.

كانت الغاية لدى "ب ي د" وصل إقليميها شرق سوريا " الجزيرة وكوباني" بإقليمها الثالث غرب البلاد "عفرين" غير أن عملية "درع الفرات" التي أطلقتها تركيا صيف العام 2016 انطلاقاً من مدينة جرابلس شمال شرق حلب، قطعت الطريق أمام هذا المشروع بشكل مرحلي، حيث طردت العملية تنظيم الدولة من مناطق واسعة تمتد بين جرابلس ومارع شمالاً ومدينة الباب جنوباً.

في هذه الأثناء كانت مليشيات "ب ي د" قطعت نهر الفرات غرباً ووصلت إلى منبج، على الرغم من تعهدات قطعتها واشنطن لأنقرة بعدم حصول ذلك، ثم واصلت واشنطن وعودها لأنقرة بأن مليشيات "ب ي د" ستنسحب من منطقة منبج.

ما كان يحصل على الأرض بدا مخالفاً لما يتحدث عنه المسؤولون الأميركيون، إذ قامت الولايات المتحدة بإرسال جنود وخبراء إلى منبج وريفها لإيقاف تمدد "درع الفرات" شرقاً، بينما قامت روسيا بخطوة مماثلة في منطقة عفرين لمنع تمدد "درع الفرات" غرباً.

لم تنقطع الرسائل التركية لأميركا بضرورة وقف دعم "ب ي د"، ولم تنقطع كذلك وعود واشنطن سواء في عهد أوباما أو في السنة الأولى من عهد ترامب.

خطة الوصول إلى "البحر المتوسط":

لم تنقطع مساعي "ب ي د" لربط أقاليمها الثلاث بعد نجاح درع الفرات بإفشال جزء من المخطط، فاتجهت الأنظار إلى إدلب لتكون وسيلة لتطبيق الخطة من قبل " ب ي د" وواشنطن وروسيا ونظام الأسد.

كانت الخطة التي أدركتها تركيا تقوم على دخول "ب ي د" مناطق في ريف إدلب الغربي، ويؤمّن نظام الأسد لها الوصول إلى البحر عن طريق ريف اللاذقية الشمالي، ويسهّل لها كذلك وصل منطقة منبج بمنطقة عفرين ليكتمل في هذه الحالة الطريق إلى حلم الدويلة الكردية من أقصى الشمال الشرقي لسوريا إلى أقصى الشمال الغربي، وبهذا تكون تركيا المستهدفة صارت على حدودها "دويلة" كردية يقودها حزب مصنف إرهابياً له سجلّ واسع من الجرائم ضد عشرات آلاف المدنيين في تركيا.

 

المرحلة الخامسة : "غصن الزيتون" تحطم مشروع "الدويلة الكردية" :

لم تلق دعوات تركيا للولايات المتحدة أذناً صاغية، ولم يعد الأمر بالنسبة لأنقرة يحتمل مزيداً من التأخير أمام ما يحاك لها من مخططات باتت مكشوفة تستهدف أمنها ودورها الإقليمي.

في واقع الأمر لم تكن تركيا تبحث عن مصالح في سوريا وهي التي تحمّلت وجود أكثر من  3 مليون لاجئ في أراضيها، بات الأمر المُلحّ بالنسبة لها ألا تخسر أمنها القومي في حال نجاح الخطة التي رسمها بشار الأسد لمعاقبة تركيا على مواقفها ثم جاءت واشنطن وبدأت بتطبيقها على الأرض.

يقول الأتراك اليوم إن عملية "غصن الزيتون" التي أطلقوها في عفرين 20 كانون الثاني يناير 2018 ليست لجلب مصلحة، بل لدفع مفسدة خطيرة، عنوانها قيام دويلة على حدودها يُديرها إرهابيو حزب العمال الكردستاني.

أما على الجانب السوري فإن العملية ستؤسس بشكل فعلي لمشروع المنطقة الآمنة الذي سعت أنقرة لتحقيقه منذ سنوات وقوبل برفض أميركي قاطع. اليوم باتت واشنطن هي من يسعى وراء الحديث عن "المنطقة الآمنة" مقابل بقاء مليشيات "ب ي د" في عفرين، وقد جزم المسؤولون الأتراك بأن الحديث عن هذه المنطقة لم يعد ممكناً إلا بعد طرد "ب ي د" من عفرين ثم من منبج.

يمكن القول باطمئنان إن "غصن الزيتون" تأتي بعد استنفاد جميع الفرص الدبلوماسية لتركيا، وبعد أن رأت أنقرة أن مزيداً من التردد قد يجرها لحرب أوسع. ينطبق هنا المثل القائل "آخر الطبّ الكي"، والحكيم يختار وجعاً يمتد لساعات على وجع قد يدوم أعواماً.

عملية "غصن الزيتون" ستُنهي الآمال المعلقة على تقسيم سوريا إلى دويلات، وتشكل دافعاً فعلياً لتوسيع منطقة "درع الفرات" والتأسيس للمنطقة الآمنة التي تلم شتات السوريين ريثما يعود وطنهم إليهم.