الأثنين 2016/02/22

الدب الروسي وعضة الكلب

كان طاعنا في السن من بني قومي .. التقينا مرة في جلسة استهل حديث بالقول:

عمي أنا درت الدنيا ما خليت مكان .. سبينة .. حجيرة .. الحجر الأسود .. برزة .. الست زينب .. نهر عيشة .. الدحاديل .. عرطوز .. ما خليت .. والله ما خليت مكان .

أدركت ساعتها أن النظر للكوكب يختلف باختلاف الاهتمام ، وبمساحة الروح على الجغرافية .

إن هذه الأماكن التي ذكرها هذا العجوز تجمعات سكنها أبناء الجولان بعد النزوح في دمشق، وهي متباعدة في ظل شبكة مرورية معقدة ومرهقة، تفوقها شبكة طرق (الهكسوس) ومعدات تنقلهم ،بعد اختراعهم للعربات؛ التي تجرها الخيول، لذلك ظن هذا العجوز أنه يتنقل بين بلدان على الرغم من أن بعض هذه الأماكن يكاد يكون متصلا.

الجغرافية اليوم مختلفة، عندنا جغرافية ثورية ، نسمع كل يوم بمئات المناطق والمدن والقرى السورية الثائرة، وجغرافية سياسية، فنحن نستيقظ على سماع الموقف الروسي، وننام عليه، ونأكل ونشرب ونحن نردده ،وإذا حدث شجار بيننا وبين بعض الأشخاص نخطأ بالشتيمة ؛ فبدل أن نقول له :يا كلب مثلا نقول له يا روسي – حسب ثقافة الشاتم.

روسيا دولة كبيرة وقديمة، ولكنها متكررة، والعودة إلى تاريخها الحديث نسبيا يحيطنا بنظرة هذا المكان وساسته للحياة وللأوطان وللمواطنين وللشعوب الأخرى، ولا يستقيم ذكر روسيا دون ذكر القيصر إيفان الرهيب 1530- 1584،الذي كان يتعامل بقسوة مع معارضيه؛ فقد كانت الطريقة المفضلة له في التعذيب هي: تهشيم الأرجل، قبل أن يلقي بالضحايا في الثلج ،أو يجعلهم يزحفون، ويطلبون الرحمة.

وفي عهده كانت العائلات النبيلة وحتى خدمهم من الأهداف الرئيسية للقمع والتنكيل، وكانت تجرى عمليات اغتصاب وقتل جماعي للنساء الارستقراطيات، وفي بعض الأحيان كانت تباد مجتمعات بأكملها أو يتم التخلص منها بأي شكل من الأشكال ،وفي نهاية المطاف قتل ابنه.

قضى إيفان الرهيب نحبه عام 1584 بعد إصابته بمرض غريب جعل جسمه يتورم، وتنبعث منه رائحة نتنة .

كان هذا الطابع العام للحقبة القيصرية ،يتفاوت القتل بين قيصر وآخر ، وكان النفي لسيبيريا ، هو المنجاة لمن ينـزل سخط القيصر عليه.

انتهت الحقبة القيصرية وبدأت البلشفية السوفيتية الشيوعية 1917 ،وبدأت دراما القتل من عهد لينيين الذي مات مبكراً1924، ولكن جوزيف ستالين (الرجل الفولاذي) الذي مات 1953 أكمل مهمة تطهير روسيا من أي شيء يعاديه؛ فالعديد من المصادر تشير إلى أن عدد ضحايا الحقبة الستالينية وصل إلى 12 مليون ضحية بحجة تطهير البلاد من المعادين للثورة، و مما يذكر أنه في ليلة واحدة (في الثامن من ديسمبر 1938) وقَّع ستالين قائمة بإعدام ثلاثين ألف رجل ،ثم قام لمشاهدة فيلم (الرجال السعداء) أما المؤرخة الانجليزية كاثرين مارديل فتقدر في كتابها ‏‎ ‏( الموت والذاكرة في روسيا ) العدد بـ خمسين مليون مواطن .

في عام 1989قال تقرير للمخابرات الروسية: إن الرقم لا يقل عن 36مليون مواطن ،ويقدر قسم التاريخ في جامعة موسكو العدد بـ 57مليون شخص .

إن جبروت هذا الرجل يتضح من كلمة كان يرددها دائما:
(موت رجل حادث مأساوي.. موت الملايين مسألة إحصائية)
سقط البلشفيون السوفييت 1990، وبدأت مرحلة جديدة استهلها بوريس يلتسين 1993 بقصف البرلمان الروسي، مخلفا الكثير من الضحايا بين قتيل وجريح ، وقد كان هذا القصف يبث أمام عدسات الكاميرات العالمية، وليس ببعيد عن ذاكرة أحد ما حدث من مجازر في الشيشان في الوقت نفسه.

لقد كان دأب هذا الدب الروسي أن يلقي بثقله وجُمْعِهِ كله على الضحية ،و ينوش لحمها، ويأكل مخ عظمها ، ولا يترك منها لعقبان السماء شيئا ، ولا يخرج من مكان المجزرة ما يدل على أن أخا لقابيل وهابيل قد سكن هذه الحاضرة .

و على الرغم من كل هذه الوثبات الوحشية في حق الشعوب؛ التي يحكمها الدب الروسي إلا أنه كان دائم الهزيمة أمام الأعداء الذين يغزونه من الخارج ،ولا تريد هذه المقالة أن تنقِّر في كل التاريخ الروسي، ولكنها ستضيء بعض الأمكنة لتستدل على مقولاتها ؛ ففي مطلع القرن التاسع عشر هاجم نابليون دول أوروبا ومن ضمنها روسيا ، وانهزم الجيش الروسي القيصري أمامه شر هزيمة ، ولم يخسر نابليون المعركة وانسحب إلا بسبب مقاومة أهلية ، وظروف لوجستية معقدة .

وقد أشار تولستوي إلى كثير من هذه الأشياء في روايته الطويلة الحرب والسلام ، وحدث مثل هذا السيناريو تماما في الحرب العامية الثانية عندما هاجم هتلر ستالين غراد وحاصرها ، ولولا صمود المدنيين لسقطت المدينة ، وكان ستالين ، قد قال لأهل هذه المدنية : لا نستطيع أن نقدم لكم شيئا ، سوى أن نقول لكم اصمدوا ، وإذا عدنا للحرب العالمية الأولى ، نجد كيف تمزق الجيش الروسي ، وخرج من المعركة ، وبعد ذلك حدثت الثورة البلشفية ، وربما تكون الحرب الباردة هي أشهر المعارك وأطولها في القرن العشرين ، حيث انتصر المحور الإمبريالي على المحور السوفيتي ، وانتهت الحرب بتفكك الاتحاد السوفييتي، الذي غرق في وحل أفغانستان وعاد مكللا بعار العزيمة .

وعندما عادت المواجهة المفترضة، بين القطبين في العالم أثناء الربيع العربي عاد الروس للسيناريو نفسه، أن يرتفع الدب عاليا ثم يُسقط كل جسده على الفريسة ، وهذا ما فعلوه في تأييدهم للقذافي بالعتاد والسلاح والتكتيك، وما فعلوه في سوريا لا تخطئ العين في تبيانه ، وتوهم الدب الروسي أنه انتصر في معركته ، وبدأ يلوح للغرب بحذاء خرتشوف بعد أزمة الصواريخ الكوبية في ستينيات القرن الماضي .

ولكنه ما تعلم من دروس المواجهة مع الغرب الذي يواجه الدب ، بمنطق الكلب الذي يعض من الخلف ، ويحسم المعركة بضربات إفقاد التوازن، ففي قمة انتشاء الروس في انتصاراتهم السياسية في الثورة السورية ، تقدم الكلب الأنجلو ساكسوني وعض الروس في قلبهم وخطف أوكرانيا بحركة سريعة أفقدت الروس توازنهم ، وجعلتهم يهرولون باتجاه جزيرة القرم ،مثلهم كمثل من عضه كلب في مؤخرته يركض دون اتجاه واحد ويصيح من حر الأوجاع. ثم يسعى للتورط في حرب طويلة في سوريا ليكون سيناريو أفغانستان التجربة نفسها وتعاد مرتين .