الخميس 2018/04/05

الحصاد البائس لغرور القوة.. مجرد أمثلة

لا شيء يضرب الدول والإمبراطوريات، وصولًا إلى الجماعات مثل غرور القوة الذي يدفعها لمغامرات لا تملك أفق النجاح.

غرور القوة يعمي عن رؤية موازين القوى الحقيقية على الأرض، فيدفع نحو خوض معارك في غير أوانها، وبعضها لا يملك أفق النجاح، والأمثلة على هذا كثيرة، بل كثيرة جدًا، في التاريخ الماضي والحاضر، نستعرض هنا بعض جديدها، مع مثال قديم بعض الشيء.

في القديم نسبيًّا؛ رأينا كيف دفع غرور القوة، جورج بوش، إلى العجز عن قراءة تاريخ هذه المنطقة، حين اعتقد أن بوسعه تدشين "القرن الإمبراطوري الجديد"، باحتلال العراق وأفغانستان، فتورط في نزيف مرعب ثمنه لا يقل عن 5 تريليون دولار، معطوفًا على ضرب النفوذ والهيبة الأمريكية.

في المشهد الراهن الذي بدأ عمليًّا منذ الثورة السورية تقريبًا، نرى غرور القوة يتجسد في سلوك عدد من الدول والقوى على نحو دفعها ويدفعها نحو مغامرات كبيرة ومكلفة، وفي الأقل خسائرها أكبر من أرباحها.

يبدأ ذلك من إيران التي اعتقدت أن بوسعها أن تغيّر حقائق التاريخ والجغرافيا في المنطقة، واستعادة ثارات التاريخ المذهبية، فكان أن رفضت الاكتفاء بقوة مهمة في العراق، فترجمت ذلك بدفع الحكومة حينها برئاسة، نوري المالكي، نحو سياسات طائفية أعادت الحاضنة الشعبية لـ"تنظيم الدولة" الذي كان في 2010 تنظيمًا سريًّا مطاردًا.

وحين وصل ربيع العرب إلى سوريا، أخذ "خامنئي" تحت وطأة غرور القوة قرار التدخل العسكري في سوريا، متجاهلًا أنه بذلك يدخل في حالة عداء جذرية مع الغالبية الساحقة من المسلمين، وأنه بذلك دمّر كل جسور التواصل معها، وأنه مهما حقق من انتصارات، فلن يقرّ له قرار، فهنا غالبية لها تراثها الراسخ في مواجهة هجمات الغزاة والمستعمرين، وهي لن تركن لأي عدوان جديد. كما أن أحلام "التشييع" لا تعدو أن تكون أوهامًا، لأن زمن تغيير العقائد بالقوة انتهى إلى غير رجعة، وإقناع الناس بالحسنى مستحيل تبعًا لطبيعة المعتقدات الراسخة، مقابل أخرى لا نريد الخوض في طبيعتها، فلكل ما يؤمن به. ولم يتوقف غرور القوة عند هذا الحد، بل دفع "خامنئي" إلى السيطرة على اليمن عبر أقلية استولت عليه بالأكاذيب والدجل، متجاهلًا أن البلد لن يخضع لها، ولو استمرت المعركة ألف عام، ومتجاهلًا تصعيد ذلك الموقف للاحتقان الطائفي في عموم المنطقة.

"بوتين" أيضًا عاش ويعيش غرور القوة، فبدلًا من أن يحوّل تدخله في سوريا إلى محطة للتفاهم مع الشعب السوري، عبر حلّ معقول، حوّله إلى عدوان على الغالبية بالقتل والتدمير، وكسب عداء الغالبية من المسلمين أيضًا، وأصبح في نظرهم مستعمرًا مثل كل المستعمرين، بل أخذ ينافس الولايات المتحدة في مستوى العداء في وعيهم، ولم يدرك أيضا أن هناك منافسًا يتربص به، ويريد له تورطًا طويلًا يتمثل في الولايات المتحدة.

غرور القوة أصاب "ترامب" أيضًا، إذ تجاهل الوضع الدولي برمته، واتخذ قرارًا في منتهى الرعونة (قرار القدس أعني)، لا يقدم ولا يؤخر في منظومة الصراع، وها هو يحاول التراجع عنه على نحو من الأنحاء. وهو ما ينطبق على "نتنياهو" الذي اعتقد أن الحريق في المنطقة يمكّنه من تجاوز كل المعطيات الدولية، ويتخذ من القرارات ما يشاء، ولولا بؤس خيارات السلطة لكان نتاج عمله أكبر بكثير مما هو عليه الآن، وهو في العموم لا يزال يواصل المغامرات غير مدرك لطبيعة مجتمع وشعبه الذي لم يعد قابلًا للتضحية كما كان في عقود سابقة.

القائمون على الثورة المضادة العربية أصابهم ذات غرور القوة أيضًا، وكان للنجاحات التي حققوها أن أقنعتهم أن بوسعهم تربية الشعوب على أن لا تفكر في التغيير في أي وقت، ولم ينتبهوا إلى ما كسبوه من عداء في أوساط جماهير الأمة، ولا لحقيقة أن الشعوب لم ترتكب إثمًا عظيمًا حتى تتوب عنه.

كان بوسعهم أن يتواضعوا قليلًا بعد "انتصارهم"، ويفتحوا جسور التفاهم مع الشعوب، على صعيد كل دولة، وعلى صعيد جماعي، بدل أن يواصلوا رحلة الاستهداف بلا توقف، وصناعة الاحتقانات على كل صعيد، الأمر الذي لن يوقف شوق الشعوب للحرية والتغيير.

هذه الحالة السائدة من غرور القوة هي تحديدًا ما سيطيل أمد النزيف في المنطقة، وربما على المستوى الدولي، حتى تتحدد موازين القوى الجديدة، ويتوصل الفرقاء إلى آليات للتعايش، وأقله إدارة الخلافات على نحو يقلل الخسائر ما أمكن ذلك.


المصدر: الدرر الشامية