الأحد 2016/12/04

أيتام البروليتارية

وأخيراً أُحرق رماد فيدل كاسترو؛ آخر زعماء البروليتاريا العالمية ممن صعدوا إلى السلطة مبشرين بالعدالة الاجتماعية؛ التي ستجلبها دكتاتورية البرولياتريا.

في حديث العجائز، يركِّز المتحدثون على البعد الأسطوري للحكاية، ويتمُّ شحنها بأكبر كمية من الخوارق؛ فتنتهي القصة بتنهيدة طويلة من السامعين متمنين استدعاء هذا النموذج، الذي اندثر، وصار أثراً بعد عين.

ولا يعطي العجائز للسامعين فرصةَ التدقيق ونقد الرواية، وذلك من خلال تدفق الصور المجازية؛ التي تخلب الألباب، وخصوصاً أن الحوادث؛ التي تذكر لا شاهد حياً عليها، وقد انصرمت الدهور التي كانت فيها.

المسألة في الحديث عن الشيوعية تأخذ بعداً مشابهاً ومختلفا عن هذه المسألة، بُعداً مشابها من حيث سرد رواية رومانسية عن حقبة حكم الشيوعيين، الذين حكموا أكثر من نصف العالم خلال القرن العشرين؛ في الاتحاد السوفييتي والصين، وكوريا الشمالية، وأوروبا الشرقية، وبلدان الوطن العربي؛ التي حكمها جنرالات الانقلاب، أما البعد المختلف في المسألة فإن شهود هذه المرحلة ما زالوا أحياء، وفي الأغلب الأعم ليسوا طاعنين في السن.

خرجت البروليتارية من السلطة، وتراجع موقعها، وظل مثقفوها و مريدوها جالسين على المقاهي متأبطين جرائد اليسار؛ التي ما زالت تصدر هنا وهناك، مستبدلين مقاهي كراسي الخيزران، والشاي الشعبي، بالمقاهي الناعمة؛ التي تقدم الكابتشينو الإمبريالي، وظل الحوار نفسه الذي علكته الأيام خمسين سنة : ستعود البروليتارية لتسحق التوحش الإمبريالي، الذي تشظَّى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي مبشرين دائماً بعودة حكم البروليتارية لأن ذلك حتمية تاريخية.

الجانب اللطيف في حوارات هؤلاء؛ الإصرار على العدالة الاجتماعية وسلطة الشعب والضمان الصحي و الاجتماعي، ولكن يغيب تماماً ضحايا القمع؛ التي بلغت أرقاماً فلكية، فقسم التاريخ في جامعة موسكو يقدر عدد قتلى الحقبة السوفييتية بـ 57 مليون شخص، قتلوا لأسباب سياسية، بينما بلغ عدد ضحايا الحزب الشيوعي الصيني أكثر من سبعين مليون إنسان.

ولا ينسى التاريخ بول بوت؛ القائد الكمبودي الذي استولى على الحكم في مطلع السبعينيات، وهو قائد الشيوعيين الماويين، الذين أُطلق عليهم اسم «الخمير الحمر» وقد انقلب إلى مجرم؛ فعلى امتداد حكمه اقتيد الملايين من أبناء الشعب الكمبودي إلى معسكرات الاعتقال؛ حيث تمت إبادتهم، واكتشفت جبال من جماجم الكمبوديين، فقد فاق عدد الذين قتلهم بول بوت الأربعة ملايين انسان.

ويظل مثقفو البروليتارية يغطون جرائم كاسترو في حق شعبه بسرد حكايات ترويها أجهزة المخابرات الأمريكية عن ستمئة محاولة لاغتيال كاسترو، وكلها فشلت، سواء عن طريق تسميمم السيجار، أو تسميمم الجاكيت، أو الحذاء، أو محاولة أمريكا النيل من هيبة كاسترو وشعبيته الثورية، من خلال محاولة رشح مسحوق يؤدي لسقوط شعر لحيته، ليهون في عيون البروليتارية؛ التي تهتف له في الساحات.

سقطت البروليتارية بوصفها صيغة حكم منذ أن بنت معتقلاتها السرية والعلنية، واعتبرت الإنسان مادة تدور في عجلة إنتاج؛ تمجد القائد وتسبح بحمد الحزب، ثم كان سقطها الثاني بانهيار أكبر معاقلها في موسكو في تسعينيات القرن الماضي، ثم بدأت أطرافها تتآكل، وظل منها بقايا مثقفين يجتمعون في المقاهي، ويتأبطون جريدة الحزب، ويمجدون سلطة البروليتارية، ويشعرون بالحنين إلى عهد الاتحاد السوفييتي، الذي كان ركَّع أمريكا بحذاء خرتشوف، والأهم من ذلك أنهم ضد ثورات الربيع العربي؛ التي يعتبرونها مؤامرة أمريكية على الخط الاشتراكي، الذي يحكم البلاد العربية.

مات فيديل كاسترو أخر زعماء البروليتارية، وتحولت جثته إلى رماد، بعد أن أوصى بذلك، وظلت الآفاق العربية مشبعة برماد جثث مثقفي البروليتارية، الذين يحلمون بيوم يعود فيه الاتحاد السوفييتي ليقضي على الإمبريالية المتوحشة، وهم يشربون الكابتشينو، ويأكلون وجبات الماكدونالدز الإمبريالية.