الثلاثاء 2021/12/28

أقبية ومحال تجارية وبيوت غير جاهزة.. ملاذ السوريين لمواجهة ارتفاع الإيجارات في دمشق وريفها

 

تشهد إيجارات الشقق السكنية في العاصمة السورية دمشق وسائر مناطق سيطرة النظام ارتفاعا غير مسبوق يصل إلى 50% و75% و100%، ويأتي ذلك الارتفاع تزامنا مع موجة غلاء متسارعة تطال معظم المواد الأساسية الغذائية والاستهلاكية لا سيما المشتقات النفطية (مازوت، بنزين) التي بدأت حكومة النظام برفع الدعم عنها شيئا فشيئا منذ مطلع العام الجاري.

 

وينعكس هذا الغلاء في إيجارات الشقق على الشرائح الأكثر فقرا من سكان العاصمة وريفها وخاصة النازحين الذين يعانون أساسا من واقع معيشي متردٍّ بسبب فقدانهم لأعمالهم وممتلكاتهم واضطرارهم لاستئجار الشقق والعمل مقابل أجور متدنية في مدن نزوحهم، ويضاف إليهم الموظفون في القطاعين العام والخاص والطلبة الوافدون للدراسة في جامعات العاصمة.

 

وتدفع هذه الأزمة، هذه الشرائح إلى البحث عن مخارج وحلول لها بشتى الوسائل، وغالبا ما تكون هذه الحلول والمخارج على حساب مستوى معيشتهم أو خصوصيتهم أو حصولهم على الخدمات الأساسية، وفي بعض الأحيان تكون على حساب صحتهم.

 

أقبية ومحال تجارية

واضطر نور الدين (52 عاما)، نازح سوري من ريف حلب، وعائلته المكونة من زوجته و5 أبناء، إلى التخلي عن شقتهم في منطقة "كشكول" بريف دمشق الشهر الماضي لارتفاع إيجارها لـ300 ألف ليرة (85.7 دولارا)، وهو مبلغ يرى نور الدين أن توفيره شبه مستحيل إلا "إذا كنت سأبقى وعائلتي بلا أكل وشرب" على حد تعبيره.

 

ويضيف نور الدين للجزيرة نت أنه يعمل في مغسل للسيارات من الـ8 صباحا وإلى منتصف الليل براتب أسبوعي يقدر بـ35 ألف ليرة (10 دولارات) اقتصر في صرفها على الضروريات من أكل ومصاريف أساسية، ويدفع إيجار الشقة من راتب ابنيه الأسبوعي، واللذان توقفا عن التعليم من أجل مساندته في مصاريف البيت.

 

ولم يكن أمام نور الدين وعائلته سوى أيام قليلة لإيجاد مأوى بديل، فلجأ الرجل الخمسيني إلى استئجار محل تجاري في منطقة زبدين بريف دمشق ببدل إيجار قدره 80 ألف ليرة (نحو 23 دولارا)، غير أن معاناة الأسرة في التكيف مع السكن الجديد بدأت مبكرا، فالمساحة ضيقة لا تتجاوز الـ25 مترا مربعا، تتداخل فيها حدود غرفة النوم مع حدود المطبخ والحمام، ويتراكم فيها الأثاث بعضه فوق بعض، أما الباب فعبارة عن غلق حديدي لا يتوقف أزيزه لا ليلا ولا نهارا ويتسرب من فتحاته البرد ليغدو الدفء أو النوم حلما من أحلام عائلة نور الدين.

 

ولا تقتصر معاناة العائلة في التعامل مع المشكلات داخل المحل التجاري، ولكنها تمتد إلى خارجه، حيث يبعد أقرب مركز لتوزيع الخبز عن محلهم نصف ساعة تقريبا مشيا على الأقدام، ومثل هذه المسافة يبعد أقرب سوق للتبضع، ما يضطرهم لإمضاء ساعات في تأمين احتياجاتهم الأساسية.

 

ومثل عائلة نور الدين، هناك مئات العائلات السوريّة التي باتت تلجأ لاستئجار المحال والأقبية التجارية البعيدة عن الأسواق في ظل الارتفاع الكبير التي تشهده إيجارات الشقق السكنية في العاصمة وريفها.

 

ارتفاع الإيجارات

ولم تمنع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة وتردي الأوضاع المعيشية للسوريين، مُلاك العقارات في دمشق وريفها من طلب مبالغ خيالية كبدلات لإيجارات الشقق والعقارات سواء أكانت في مركز المدينة أو في الأرياف والعشوائيات سيئة الخدمة، متذرعين بقانون البيع العقاري الذي بدأت حكومة النظام السوري تطبيقه في 25 مارس/آذار الماضي والذي نص على خضوع العقارات السكنية المؤجرة إلى ضريبة دخل بنسبة 5% من بدل الإيجار السنوي.

 

ويرى سيمون (43 عاما)، صاحب مكتب عقاري في منطقة "باب توما" بدمشق، أن الارتفاع الذي سجلته أسعار العقارات في دمشق وريفها له عدة أسباب، أبرزها الغلاء المتفاقم للسلع الرئيسية، وتدني قيمة الليرة أمام سائر العملات الأجنبية، واعتماد العديد من المؤجرين على بدل الإيجار كمصدر رئيسي للدخل.

 

ويقول سيمون -في حديثه للجزيرة نت- إن "هناك فجوة واسعة بين دخل الفرد الذي لا يتجاوز عشرات الألوف أحيانا والمبالغ التي يطلبها أصحاب العقارات حتى في مناطق العشوائياّت كمناطق (الدويلعة) و(التضامن) و(دفّ الشوك) و(دفّ الصخر) و(سقبا) والتي يتراوح إيجار الشقة فيها بين 200 و300 ألف ليرة ( 75 إلى 85 دولارا) وصولا إلى 500 ألف (143 دولارا) حسب الشقة والمنطقة، في حين يتراوح إيجار الغرفة الواحدة في مناطق دمشق القديمة (باب توما، باب شرقي، القيمرية) بين الـ250 و350 ألف ليرة (من 71 إلى 100 دولار)، وبالطبع فإن بعض هذه الأرقام تساوي 4 و5 أضعاف راتب الموظف".

 

ويضيف سيمون أنه "في المناطق الأكثر تنظيما والأقرب لمركز المدينة ترتفع هذه الأرقام أضعافا مضاعفة ليصل سعر العقار المؤجر في (المزة) و(الميسات) و(الشهبندر) إلى مليون ليرة شهريا (286 دولارا)، بينما يرتفع السعر في مناطق كالـ(مالكي) و(أبو رمانة) و(مشروع دمر) ليتراوح ما بين 500 ألف ومليوني ليرة (من 143 إلى 572 دولارا)".

 

ويشرح سيمون، أن مُلاك العقارات ضحية للواقع الاقتصادي في البلاد كما حال المستأجرين، وأنهم يجمدون أموالا طائلة في الشقق والمحال تصل أحيانا إلى مليار ليرة سورية للعقار الواحد، ببدل إيجار شهري لا يتجاوز 1% من قيمة الرأسمال المجمد وهو ما ينعكس سلبا على استثمارهم.

 

ونتيجة نزوح مئات الآلاف من السوريين إلى دمشق وريفها من مناطقهم المدمرة طيلة الأعوام العشرة الماضية، بات مستوى الطلب على العقارات يفوق بأضعاف مستوى عرضها؛ وهو سبب مضاف لأسباب ارتفاع إيجارات الشقق، بحسب سيمون.

 

يذكر أن محافظتي دمشق وريف دمشق من أكثر المحافظات استقبالا للنازحين في مناطق سيطرة النظام منذ اندلاع الحرب في البلاد عام 2012، حيث تحتضنان وحدهما ما يزيد على مليون من أصل نحو 7 ملايين نازح داخلي، بحسب تقرير للأمم المتحدة.

 

البيوت العارية

إلى جانب المحالّ والأقبية التجارية، يلجأ الكثير من العائلات السورية التي وجدت نفسها مهددة بالإخلاء بين ليلة وضحاها لعدم تمكنها من دفع قيمة الإيجار إلى استئجار الشقق غير المكسية أو المجهزة بالخدمات الرئيسية (الإمدادات الكهربائية والصحية) لتحول بينهم وبين المبيت في العراء.

 

وعائلة بدور (37 عاما)، نازحة من البوكمال وأم لطفلتين، واحدة من تلك العائلات التي انتهى بها المطاف في بيت "غير مكسو" في منطقة المليحة بريف دمشق، ذلك بعد ارتفاع إيجار شقتها بنحو الضعف في الأشهر القليلة الماضية.

 

وتواجه "بدور" (اسم مستعار) وطفلتاها في شقتهم الحالية واقعا مأساويا، فلا إمدادات كهربائية في الشقة ولا وسيلة للتدفئة ولا أبواب أو نوافذ لتصد عنهن برد الشتاء القارس، في حين تضطر "بدور" إلى إشعال بعض الحطب في "تنكة معدنية" على شرفة الشقة حتى تتمكن من الطهي والاغتسال وتسخين المياه.

 

وتقع غالبية هذه الشقق في المناطق العشوائية، التي بالكاد تصلها الخدمات الأساسية من تيار كهربائي وخطوط هاتف ومياه شرب، وهو ما يضاعف من معاناة تلك العائلات التي تجاهد في سبيل الاستقرار والنجاة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد.

 

ويعيش اليوم 90% من السوريين تحت خط الفقر بحسب البرنامج العالمي للأغذية، بينما يعاني حوالي 12 مليونا و400 ألف شخص- نحو 60% من سكان سوريا- من انعدام الأمن الغذائي.

 

الخصوصية مقابل المأوى

ولا تقتصر الآثار الكارثية لأزمة السكن على النازحين من مختلف المناطق السورية المدمّرة إلى دمشق وريفها، ولكنها تطال أيضا الموظفين في القطاعين العام والخاص إضافة للطلبة الوافدين من مختلف المحافظات لمتابعة دراستهم في جامعات دمشق.

 

وتعيش عائلة الموظف الحكومي هاني (29 عاما)، وعائلة أخيه في شقة واحدة لا تتجاوز مساحتها الـ60 مترا، وبالرغم من أن مشاركة العائلتين للشقة يسهم في توفير الأموال غير أنهما حرمتا من أدنى مستويات الخصوصية التي تتطلبها حياة كل أسرة.

 

ويقول هاني للجزيرة نت "أجلس وزوجتي وأطفالي الثلاثة في غرفة واحدة، لا يستطيع أبنائي الدراسة إلا في ساعات نوم أخيهم الرضيع، أما الخوض في الأحاديث الخاصة مع زوجتي فهو أمر مستحيل بوجود 9 أفراد يعيشون في البيت".

 

وشاعت هذه الحلول مؤخرا بين الأسر الأكثر تضررا من موجة غلاء بدلات إيجار الشقق، لتخفيف الأعباء المادية عن كاهل الأسر وضمان حياة أكثر جودة.

 

أما صبا (24 عاما)، طالبة في كلية الهندسة المعلوماتية بجامعة "الهمك" في دمشق، فاضطرت لتوقيف دوامها الجامعي بداية هذا الفصل للعمل بدوام كامل كنادلة في المقهى المجاور لغرفتها المستأجرة في حي باب شرقي لتأمين بدل الإيجار، بعد أن أصبحت عائلتها عاجزة عن مساعدتها في تسديده تزامنا مع طلب المؤجر زيادة قدرها 50 ألف ليرة ليصبح إيجار الغرفة 250 ألفا شهريا (نحو 72 دولارا).

 

يذكر أن متوسط رواتب الموظفين في القطاع العام سيبلغ ابتداء من مطلع العام المقبل 110 آلاف ليرة (نحو 31 دولارا) بموجب مرسوم رئاسي صدر مؤخرا، بينما سيبقى الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص 90 ألف ليرة (نحو 26 دولارا)، وهي رواتب لا تكفي لاستئجار غرفة واحدة بمناطق عشوائية سواء في دمشق أو ريفها.