الأحد 2018/06/03

خواطر رمضانية

الفاعلية الحضارية

 

ذكرنا في المقال السابق أن أحد عوامل الخروج من الحضارة كان الدعوة للزهد والانسحاب من الدنيا باعتبار أن ذلك شرط التطهر والتسامي عند دعاته ولكن هل تسامى عندنا ظهر في المجتمع الذي انحاز للتصوف؟

بصيغة أخرى هل ظهرت سمات الرحمة والعدل والصدق والنظام والنظافة والاستغناء في البيئات التي ظهرت فيها الطرق الصوفية وأتباعها بالملايين وهل انعكست على بقية المجتمع سلاما روحيا وهل ولد المجتمع غير ال(المادي)المنشود؟

 

ان الناظر الى المجتمعات العربية والإسلامية لا يجد اثرا لكل ذلك فلا هي نجحت في إعطاء نموذج التسامي الأخروي ولا هي نجحت في إعطاء نموذج الخلاص الدنيوي ،عدلا قانونيا وصناعة وزراعه...والسؤال لماذا هذا العجز المزدوج؟

 

محاولة الاجابة على السؤال لا تعني بالضرورة استيفاء الموضوع حقه ولكنها محاولة لتسليط الضوء على جانب مهم يُشكل مصائر الأمم الا وهو درجة سلامة مناظيرها للوجود!

 

فاهم صفة للإنسان انه كائن قادر على ادراك وجوده في قلب الوجود الخارجي وهو معنىً عميق تتحدد به كل استجاباته وفاعليته من عدمها في الحياة.

 

في عالم الغيب هناك تكريم وجودي للإنسان لحظة خلقه أهله لأن يُطلب من أهل السماء السجود له وهو بعدُ لم يفعل شيئا يستحق به التكريم ،لا شئ مطلقا،هو مادة خام في عمقها قابليات لم تكشف عن نفسها بعد فأي معنى لذلك التكريم وأي دلالة تترتب عليه في الوجود؟

 

حين ننزل للأرض ،لعالم التحقق والاختبار تتبدى تلك القابليات التي أهلته لتكريم السماء في اشكالها التطبيقية...نظرة للإنسان...نظرة للعلم...نظرة للطبيعة...نظرة للحياة والعمل...نظرة للوقت...نظرة للدين...نظرة لشريكه من البشر في المجتمع القريب...نظرة لشريكه من أهل المجتمعات البعيدة.

 

وعلى سلامة هذه التربة (المناظير)تتحدد مصائر المجتمعات ودرجات رقيها ، فحين يترجم مجتمع ما الكرامة الوجودية الى فعل على مستوى الحقوق والواجبات التي تسوي بين البشر في العدل القانوني (القسط)والعدل الخلقي(البر) فهو يخلق حينها أساس الأسس الذي تقف عليه خدمة الانسان واستحقاقاته هو حينها يستحق ان تُطلق طاقة العلم عنده ليكشف اسرار آيات الله في الكون فتتصل الذات العارفة بالآيات المبثوثة تستنطقها القوانين لتسخرها لخدمة الانسان في حوار لا ينقطع عنوانه(وقل رب زدني علما) وعندها يصبح العمل وإتقانه كرامة للفاعل وتكريما للوجود وعندها يصبح الوقت ثروة و يصبح الدين صلة وصل فاعلة بالوجود لا فاصلة قطع بالموجودات ،وعندها يصبح طلب المساواة بالخلق دينا وفهم المختلف علماً ،عندها تغتني الروح ويصبح للزهد قيمة حقيقية وهي ان يلتفت الانسان لخالقه في ذروة تمكنه من الدنيا فذلك هو السمو الحقيقي سمو القادر لا العاجز ففشل المشروع الروحي عندنا هو فشل في بناء نظرة نسقية للعلاقة بين الانسان المكرم والوجود كاختبار لقابليات هذا الموجود المكرم وهو الانسان.


جاسم السلطان