الجمعة 2020/11/13

“نرجع ما نرجع”.. طوابير خبز في المزة و”عرس وطني” في قصر المؤتمرات

كثيرةٌ هي المشاهد التي تمر على المواطن السوري من شمال سوريا إلى جنوبها، إلا أنها وعلى مدار اليومين الماضيين أخذت منحىً فريدا في العاصمة دمشق، والتي خرجت منها صورتان متناقضتان.

الأولى من أمام فرن الشيخ سعد في حي المزة، والثانية إلى مسافة أبعد بقليل في "قصر المؤتمرات"، الذي شهد ما أسمته دمشق "عرسا وطنيا"، من خلال مؤتمر اللاجئين الذي عقده نظام الأسد بدعم من روسيا، لتسهيل عودة اللاجئين السوريين من الخارج.

الصورتان كانتا كفيلتين بإظهار تفاصيل "البلد الآمن والمستقر" الذي يروج له النظام السوري لكسب من هم في الخارج، وفي ذات الوقت كانتا بمثابة عرضٍ لا غيره من السوريين في الداخل إلى الخارج، لقطع الشك باليقين لبعض الأشخاص، والذين ربما هناك نوع من التردد في داخلهم، وما يزالون يتساءلون "نرجع أو ما نرجع؟".

وما بين منطقة "الشيخ سعد" وقصر المؤتمرات تتبدل الوجوه وتختلف الغايات والشخصيات، فأمام فرن المنطقة الأولى يتجمع مئات المواطنون ضمن "طوابير" للحصول على ربطة خبزٍ واحدة، بينما يناقش منهم في قصر المؤتمرات من مسؤولين سوريين وروس مسار عودة السوريين في الخارج، بعيدا عن السوريين في الداخل الذين تأقلموا مع حياتهم، ولا داعي بعد الآن لبرامج اندماج جديدة لهم للتكيف مع ظروف المرحلة والحال.

وخلال المؤتمر الذي عقد ضمن ترويج إعلامي كبير، لم يتطرق نظام الأسد إلى ما تشهده سوريا، ولاسيما المحافظات الخاضعة لسيطرته، متجاهلا الأزمات المتتالية والتي ألقت بثقلها على السوريون أصحاب الطبقة الفقيرة، وخاصةً أزمة الخبز، وهي المادة التي كانت حكومة الأسد قد رفعت أسعارها إلى الضعف، ورغم ذلك لم تتمكن من تأمينها بالشكل الكافي.

صورٌ وتسجيلات مصورة نشرتها شبكات محلية وناشطون من دمشق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأظهرت "طوابير" (أرتال) يتجمع فيها المئات من المواطنين أمام عدة أفران، وخاصة فرن الشيخ سعد في المزة وأفران "ابن العميد" في حي ركن الدين، وهو حال لا يقتصر على مدينة دمشق فقط بل ينسحب إلى حمص ودرعا وحلب أيضا.

"عارف" (29 عاما) شاب من مدينة إدلب، ويقيم في العاصمة دمشق منذ 5 سنوات يتوجه يوميا إلى فرن الشيخ سعد بحي المزة، ويقول لـ "موقع الحرة": "خصصنا أنا وأخوتي برنامج يومي للذهاب إلى الفرن، على أن نتبادل الأدوار لتأمين مخصصات عائلتنا من الخبز".

ويضيف الشاب الذي طلب عدم ذكر اسمه: "الصور لا توصل حجم الواقع الحقيقي على الأرض، والذي يقف في الطوابير وخاصة مع أزمة كورونا الحالية يتذوق معنى المعاناة والذل في كل ساعة (...) عندما تجد أن لا قيمة لك في هذا البلد يكون حجم القهر أكبر، وهو أمر نراه بأعيننا في الأفران، التي أصبحنا نصبح ونمسي على أبوابها".

وفي دمشق الآن لا حل يراه المواطنون لأزمة الخبز على المستوى القريب، حسب الشاب، الذي يوضح بناء على حديث "معتمدين" ومطلعين على عمل الأفران أن الأزمة أكبر من المعلومات التي نشرت عليها، فالأمر لا يتعلق بتضاؤل كميات الحبوب الموردة، بل ترتبط بالمحروقات أيضا وقطع غيار الأفران والمستلزمات الأولية، والتي يواجه وصولها وتوريدها عقبات عدة، بعضها مرتبط بالتجار المتحكمين بها، وأخرى بالعقوبات المفروضة على النظام.

أزمة مستمرة.. لماذا؟

بيع الخبز في سوريا لم يعد كما في الماضي، بل أنه ومنذ 19 سبتمبر الماضي بات يباع للمواطنين من قبل حكومة الأسد عبر ما يسمى بـ"البطاقة الذكية"، وفقا لنظام "الشرائح" في مخابز دمشق وريفها.

ووفق الآلية الجديدة لتوزيع مادة الخبز، تحصل العائلة المؤلفة من شخص أو شخصين على ربطة خبز واحدة، والعائلة المؤلفة من ثلاثة أو أربعة أشخاص تحصل على ربطتين.

أما العائلة المؤلفة من خمسة أو ستة أشخاص تحصل على ثلاث ربطات، ومن سبعة أشخاص وأكثر أربع ربطات، وتحتوي الربطة الواحدة على سبعة أرغفة.

تحويل البيع إلى "البطاقة الذكية" قرار تبعه عدة إجراءات وتغييرات من جانب حكومة الأسد، وخاصة على الخبز، والذي يعتبر المادة الأساسية التي يحتاجها المواطن السوري، في حياته اليومية

ولعل أبرز الإجراءات الأخيرة المتعلقة بالخبز هو رفع سعره من 50 ليرة إلى 100 ليرة، وإلى جانبه رفعت حكومة الأسد سعر بيع طن الطحين المدعوم بمبلغ 40 ألف ليرة سورية، مبررة هذه الخطوة بأنها تأتي "نظراً للصعوبات التي تواجهها الدولة، في توفير المادة وارتفاع قيمتها وتكاليف شحنها".

الخبير الاقتصادي ورئيس "مجموعة عمل اقتصاد سوريا"، الدكتور أسامة القاضي يرى في حديث لـ "موقع الحرة" أن أزمة الحصول على الخبز رغم رفع سعره ترتبط بمحاولة روسيا الضغط على نظام الأسد والنظام الإيراني، من أجل دفعهم للمضي في المسار السياسي.

ويقول القاضي: "الروس يؤخرون توريد القمح إلى سوريا حتى ينصاع النظام إلى الأوامر الروسية، ليس فقط لتوقيع 40 مشروعا، بل من أجل السير في اتجاه تطبيق قانون قيصر وعودة اللاجئين والتفاعل مع مخرجات اللجنة الدستورية

، والتي خرجت من مؤتمر سوتشي".

ويوضح الخبير الاقتصادي أن نظام الأسد كان قد وقّع على استيراد 200 ألف طن قمح من روسيا، لكن لم يصل منها حتى الآن سوى 26 ألف طن، وهو ما كان عاملا مساعدا للأزمة التي تشهدها الأفران في سوريا.

وحتى اليوم تغيب أي مبررات واضحة من جانب حكومة نظام الأسد عن الأسباب التي دفعتها لرفع أسعار المواد المدعومة في سوريا، أو أسباب عدم توفر الخبز حتى الآن.

وبينما يتهم نظام الأسد العقوبات الغربية والأميركية بالوقوف وراء الأزمات الاقتصادية، يؤكد محللون اقتصاديون أن رفع أسعار الخبز يرتبط بالجانب الروسي وتأخره في إيصال إمدادات الطحين، في الأسابيع الماضية، وهو أمر مشابه للمحروقات التي تتولى إيران إيصالها إلى الموانئ السورية.

سبب آخر حدده الخبير الاقتصادي، أسامة القاضي يقف وراء أزمة الخبز، وهو عدم قدرة نظام الأسد على شراء القمح من الفلاحين، وإغرائهم لبيعه محاصيلهم، مشيرا "يبدو أن الفلاحين باعوا القمح لمناطق أخرى أو أنهم طالبوا برفع الأسعار نظرا للتضخم الهائل الموجود".

ويعتقد الخبير الاقتصادي أن مفتاح الحل بيد روسيا، كونها تعتبر أكبر مصدر قمح في العالم، وفي المقابل "لا يمكن أن يقوم الروس بحل هذه الأزمة السورية، إلا عندما يتم خضوع النظام كليا واستجابته للمسار السياسي الروسي".

إفلاس وعجز في الموازنة

في سياق ما سبق وضمن الحديث عن الأسباب التي تقف وراء أزمة الخبز المستمرة حتى الآن، حدد الخبير الاقتصادي، يونس الكريم، في تصريحات لـ "موقع الحرة" أربعة أسباب تقف وراء الأزمة الحالية، متوقعا استمرارها في المرحلة المقبلة.

السبب الأول، حسب الكريم هو "خسارة الموازنة العامة التي تدعم القمح والسلع الأساسية لأكثر من 80 % بسبب تغير سعر صرف الليرة السورية، وبالتالي اختفى أي دعم من الحكومة الحالية، والتي باتت حكومة تسيير أعمال، بسبب الإفلاس، وعدم قدرتها على تنفيذ بنود موازنة 2020".

ويضيف الكريم: "هناك سبب يتعلق بقانون قيصر الذي جعل الكثير من البنوك والشركات العالمية تخشى التعامل مع أي شيء يخص نظام الأسد، لذلك أوقفوا تعاملاتهم وامتنعوا عن الارتباط بأي شيء سوري".

وإلى جانب ما سبق، يوضح الخبير الاقتصاي أن أزمة المحروقات وأزمة الحصول على قطع صيانة للمخابز ألقت بظلالها على الأزمة الحالية أيضا، بالإضافة إلى الأعطال التي تشهدها الأفران وخاصة في الأرياف، التي تعرضت في وقت سابق لقصف من طائرات النظام السوري.

ويؤكد الكريم على حديث الخبير الاقتصادي أسامة القاضي بالقول: "النظام لا قدرة له على شراء القمح، بسبب انعدام السيولة، وعلى خلفية امتناع الإدارة الذاتية في شرق سوريا من بيعه الحبوب، وهي سلطة إدارية تمسك بمساحات زراعية واسعة في الشمال الشرقي من سوريا".

جميع ما سبق من أسباب لأزمة الخبز والواقع الحالي الذي يعيشه المواطنون السوريون في مناطق سيطرة نظام الأسد يقود إلى ما حذّر منه برنامج الأغذية العالمي، التابع للأمم المتحدة، من ارتفاع عدد من يعانون من انعدام الأمن الغذائي في سوريا إذا لم تتوفر "مساعدة عاجلة".

وقال البرنامج، في 31 من أغسطس الماضي، إن 9.3 مليون شخص في سوريا يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ومن دون مساعدة عاجلة، مضيفا أنه "من الممكن أن ينزلق أكثر من 2.2 مليون إلى حافة الجوع والفقر".