السبت 2017/07/29

فوضى المليشيات الشيعية والشبيحة في سوريا .. صورة من الداخل

مركز الجسر للدراسات...

في التحليل الصادر عن تشاتام هاوس (المعهد الملكي للشؤون الدولية) في يوليو تموز 2017 يتحدث "مازن عزي" عن طبيعة العلاقة بين النظام والمليشيات الموالية له، والفوضى الهائلة التي تنشرها هذه المليشيات الأشبه اليوم بعصابات المافيا التي قطّعت المدن والأرياف إلى مناطق نفوذ لها، تقوم فيها بكل أنواع الجرائم من الخطف والسلب والقتل وطلب الفدية، وتحتكر حتى الخدمات الرئيسية المحصورة عادة بيد الدولة كخدمات المياه والكهرباء والمشافي وغيرها.

أشار "بشار الأسد" إلى هذه الفوضى بصوت خافت جدّاً في خطابه 20 حزيران/يونيو 2017، وبدأ حملة أمنية خجولة للسيطرة على بعض ظواهر التفلّت في البلد، استجابة للضغط الشعبي المتذمّر من الممارسات التي تضايقه في كل شؤون حياته اليومية، لكن ردّ العصابات العنيف جاء سريعاً بعد عشرة أيام، في التفجير الذي ضرب وسط العاصمة دمشق، والذي توقفّت بعده الحملة تماماً.

يخلص التحليل إلى نتيجة مهمة تتمثل في أن "الخطوط التي تفصل سلطة الدولة عن سلطة المليشيات أصبحت اليوم غير واضحة وسط عسكرة المجتمع السوري".

أما النتيجة الأخطر في التحليل فتتمثل في أن "الدولة والمليشيات في سوريا اليوم مثل التوائم الملتصقة (السيامية) التي لا يمكن فصلها عن بعضها دون قتل أحد الطرفين".

المشكلة التي سنبقى نحمل تبعاتها كسوريين، أن هذا النظام الأثيم وفي سبيل الحفاظ على بقائه استقدم كل وحوش الأرض وأطلقها في البلاد تعيث فيها فساداً، وهي اليوم خارج سيطرته تماماً

والأنكى من ذلك أن هذه المليشيات تعتبر قوات شرعية، ووجودها في سوريا له غطاء قانوني باعتبار أنها دخلت بطلب من "الحكومة الشرعية"، وهي تشبه القوات الأمريكية وغيرها التي دخلت العراق بطلب من حكومته آنذاك، وأنه لا سبيل لإخراجها في كل مراحل العملية السياسية التفاوضية، حتى تأتي حكومة جديدة من سوريين يعتزّون بأنفسهم ويقولون لهذه المليشيات: شكراً لكم، مع السلامة، ويطلبون منها الخروج.. هذا كلام دي ميستورا بحروفه تقريباً.

 

تحليل تشاتام هاوس :

 

على مدى السنوات الست الماضية، فوَّض نظام الأسد عددا كبيرا من سلطاته للميليشيات الموالية، وعهد إليها بالحفاظ على الأمن، وتمثيل النظام، والتعامل مع الشؤون اليومية للمجتمعات المحلية، واليوم يبدو من المستحيل تقريبا على الدولة استعادة سلطتها.

بالإضافة إلى ضعف "الدولة السورية" وفشلها المتزايد في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، اكتسبت المليشيات الكثير من الأرض التي لا يستطيع النظام ضبطها والسيطرة على الأسلحة والعنف فيها، حتى لو رغبت في ذلك. وتختلف حِدّة الفوضى الحالية في سوريا بحسب المنطقة اعتمادا على التماسك الاجتماعي والمناخ الإثني والطائفي السائد؛ بيد أن نموذجا متطابقا يستنسخ نفسه في جميع المناطق التي يسيطر عليها النظام. وتقوم المليشيات المحلية من اللاذقية إلى السويداء بأعمال النهب والقتل والاختطاف للحصول على فدية يومياً، عندما تواجه ضغوطا مالية أو كجزء من الصراعات الداخلية والاقتتال، والتنافس بين بعضها البعض. كما تستخرج المليشيات مدفوعاتِ الحماية من التجار والمصنّعين، وتتدخل في شؤون الشركات الخاصة وتفرض "ضرائب" على الشركات الخاصة والعامة وتتحكم في أسعار السلع.

وقد تكون حلب، التي استعادتها قوات النظام في أواخر عام 2016، أكثر الأمثلة عنفا عن الفوضى وانعدام الأمن، حيث تسيطر المليشيات التابعة للواء الباقر واللجان الشعبية وعشيرة البري والعنجيري، وكتائب القدس الفلسطينية وكتائب البعث على أحياء حلب الشرقية، في حين أن مليشيات "الشبيحة" المرتبطة بالأجهزة الأمنية، تنتشر في جميع أنحاء غرب المدينة.

 

وتحتفظ المليشيات باحتكار الخدمات الرئيسية التي أصبحت مصدر دخل لعناصرها، من المستشفيات العامة والنقل إلى الطاقة ومياه الشرب. وتدير كل مليشيا مسلحة نوعا من الخدمات والمنافع العامة، وتتقاسم العائدات مع أجهزة الأمن التابعة للنظام.

فعلى سبيل المثال، تدير ميليشيا لواء الباقر قطاع النقل في حلب، وذلك باستخدام أسطول كبير من الميكروباصات، وتقاسم إيراداتها مع إدارة شرطة المرور والأمن العسكري.

 

الميليشيات الإيرانية والدولة الروسية؟

 

هذه الديناميكية بين المليشيات والدولة هي في حد ذاتها صراع بين النهجين المتباينين ​​لحلفاء النظام: روسيا وإيران. وعلى الرغم من الاتفاق الحالي بين روسيا وإيران للحفاظ على نظام الأسد، فإن أهدافهم طويلة الأجل تختلف. فروسيا مهتمة بدعم "الدولة السورية" عن طريق جيشها الرسمي، الذي تجسده "القوات المسلحة"، في حين تسعى إيران إلى تشكيل ودعم وتمويل طائفة واسعة من الميليشيات الأجنبية والمحلية الموالية للنظام.

في أواخر عام 2016، حاولت روسيا تجنيد الميليشيات الموالية وإرفاقها بالفرقة الخامسة، وهي وحدة عسكرية شكلت حديثا تابعة للقوات المسلحة للنظام، ولم تحقق سوى نجاح محدود؛ فالقوات التابعة للنظام تقدم مزايا محدودة بالمقارنة مع التأثير والموارد المالية غير المشروعة المقدمة لأفراد المليشيات.

وغالبا ما تترجم الاختلافات بين المصالح الروسية والإيرانية إلى اشتباكات مسلحة على الأرض بين الوكلاء المحليين، وقد تطلّب التوتر الذي اجتاح مؤخرا المناطق التي يسيطر عليها النظام حول منطقة التصعيد في شمال حمص تدخلَ الشرطة العسكرية الروسية من أجل السيطرة على المليشيات الشيعية الموالية لإيران هناك، بعد رفضها للنتائج التي توصلت إليها أستانا 5.

 

وتندرج المليشيات الموالية للنظام في مجموعتين رئيسيتين:

الأولى تضم مليشيات شيعية أجنبية تقاتل إلى جانب قوات النظام على الخطوط الأمامية ضد المعارضة وتنظيم الدولة، مثل "حزب الله" اللبناني، وكتائب "الفاطميون" الأفغانية، ولواء "زينبيون" الباكستاني.

وتتألف المجموعة الثانية من مئات المليشيات المحلية التي عهد إليها بالحفاظ على الأمن في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وأهمها وأكبرها "قوات الدفاع الوطني".

 

وعلى الرغم من أن إيران ترعى معظم تجمّعات المليشيات، فإن المليشيات المحلية تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الأجهزة الأمنية وتتألف في الغالب من السوريين، وفي بعض الأحيان، تشارك المليشيات المحلية، ولا سيما قوات الدفاع الوطني، في القتال بالمناطق المجاورة؛ بيد أن معظم المليشيات تفضِّل البقاء داخل حدود منطقتها؛ ولذلك فإن هذه المليشيات قادرة على اجتذاب الشباب السوري المطلوبين للخدمة العسكرية، لأنها توفر لهم وسيلة للخروج من القتال على الخطوط الأمامية.

فعلى سبيل المثال، في مدينة السويداء التي يسيطر عليها الدروز، أكثر من 27،000 شخص فشل النظام في تبليغهم للخدمة العسكرية، وانضم الكثير منهم بدلاً من ذلك إلى المليشيات المحلية من أجل الاستفادة من المزايا المقدّمة مثل الرواتب والسلطة والحماية من المساءلة القانونية في حال حدوث أي تجاوزات.

 

الحملة الأمنية:

 

الضغط الشعبي بين أنصار النظام للسيطرة على فوضى هذه المليشيات انعكس في خطاب بشار الأسد في 20 حزيران / يونيو، حيث تحدث عن "بعض الظواهر الضارّة التي حدثت في السنوات الأخيرة من الأزمة، والتي تؤثر أحيانا بشكل مباشر على حقوق المواطنين"، أي "المواكب الضخمة، وإغلاق الطرق، مما يخلق انطباعا بالإرهاب والذعر "الذي قام به بعض المسؤولين الحكوميين، أو أبناؤهم، أو الأشخاص غير المسؤولين" وقدم بشار هذا كجزء من "الإصلاحات الإدارية" التي تعتبر أساسية لتطوير عمليات "مؤسسات الدولة" وزيادة إنتاجية موظفيها، استمراراً لنهج "التنمية والتحديث" الذي طرحه الأسد في خطابه أمام "مجلس الشعب"، في خطابه الافتتاحي في تموز / يوليو 2000.

 

في 21 حزيران / يونيو 2017، قررت إدارة المرور في وزارة الداخلية في دمشق القيام بدوريات لمنع وقمع محاولات زعزعة الاستقرار وقمع أي مظاهر مسلحة في شوارع المدينة باستثناء الأسلحة التي تستخدمها الشرطة وقوات الأمن أثناء أداء مهامها الرسمية، وقد حظيت هذه القرارات بدعم قيادة "حزب البعث"، واحتفظت "الرئاسة" بخط هاتف وصفحة على وسائل التواصل الاجتماعي لتلقي الشكاوى ضد كل من "يخرق القانون".

 

ونتيجة لهذه القرارات، صودرت "رخص الأمن" التي لم يُصدرها مكتب "الأمن الوطني" في دمشق من المدنيين الذين اشتروها مقابل الحماية من المليشيات وتسهيل الانتقال من خلال حواجز الطرق أو الهروب من الخدمة العسكرية الإلزامية. واستهدفت الحملة التي نفذتها التحقيقات المرورية والدوريات المشتركة دراجات نارية غير مرخصة وسيارات مع لوحات مخفية، وزجاج ملون، فضلا عن عشرات المسلحين الذين يتجولون بعيدا عن مواقعهم العسكرية. وأصدر "فرع حلب لحزب البعث" تعليمات لحظر تجوّل أعضاء "كتائب البعث" داخل المدينة في زيّ عسكري، وحظر حمل أسلحة خارج مقرّاتهم.

وفي محافظات أخرى، تمت إزالة بعض المواقع الأمنية والعسكرية من المدن والبلدات، وتمت مصادرة مئات الدراجات النارية غير المرخصة، وتم اعتقال المئات من الشبان الفارين من الخدمة العسكرية ونقلهم إلى نقاط تجمع ومعسكرات تدريب.

ومع ذلك، أُفرج عن جميع أفراد المليشيات المحلية الصغيرة بعد 48 ساعة من اعتقالهم، ولم تحدث مواجهات كبيرة مع أي مليشيات مسلحة، كما لم تتوقف مهام وسلطات أي مليشيا.

وقد ذكر النظام بوضوح منذ بداية "الحملة الأمنية" أنه لا يريد الاشتباك مع المليشيات، كما يتضح من أنه كلف وزارة المرور في وزارة الداخلية بتنفيذ الحملة، وعلى الرغم من أن إدارة المرور، التي تدعمها دوريات مشتركة من عدد من الأجهزة الأمنية، لكنها تتمتع بسلطات وقدرات محدودة؛ وبالتالي، فإنه لا يمكن مواجهة حتى أصغر مجموعة من المليشيات المحلية. فقط "القوات المسلحة" قادرة على ذلك، وهم مشغولون بالقتال جنبا إلى جنب مع المليشيات الموالية على الخطوط الأمامية.

 

في 2 تموز / يوليو 2017، وقع انفجار في ميدان التحرير في العاصمة دمشق، ما أسفر عن وقوع عدد من الضحايا، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الحادث الذي كان من المحتمل أن يكون، وفقا لمصادر مؤيدة للنظام، رسالة إلى النظام لوقف حملته الأمنية، على الرغم من نتائجها المتعثرة. والواقع أن الحملة توقفت بعد الانفجار مباشرة.

 

وبعد أن قوبلت النتائج المحدودة للحملة الأمنية بخيبة أمل بين أنصار النظام، حدث احتجاج في المنطقة الصناعية في حلب في 6 يوليو تموز، ندد المحتجون فيه بممارسات المليشيات الموالية للنظام، وفي اليوم نفسه، نُظمت مظاهرة مماثلة في بلدة "نبّل" الشيعية في ريف حلب الشمالي، ودعت النظام إلى وقف عمليات السطو المسلح التي ترتكبها المليشيات وإزالة الحواجز العسكرية.

 

لقد أصبحت الخطوط التي تفصل سلطة الدولة عن سلطة المليشيات غير واضحة وسط عسكرة المجتمع السوري، الدولة والمليشيات في سوريا اليوم مثل التوائم الملتصقة الذين لا يمكن فصلهم دون قتل أحدهم.