الأثنين 2018/09/03

فورين بوليسي: بوتين يحاول اختراق أوروبا من الجنوب


بقلم: ستيفن كوك

المصدر: فورين بوليسي

ترجمة: مركز الجسر للدراسات


يدرك الكرملين جيدا أن أفضل طريقة لإضعاف الغرب تأتي عبر السيطرة على الشرق الأوسط، أكبر نقط ضعفه.

لم تكن أوروبا الساحة الأولى للمعارك الكبرى بين الجيش الأمريكي والقوات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. في 8 و10 من تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1942، وصلت القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها إلى المغرب والجزائر. بعد التغلب على قوات "فيشي" الفرنسية، تحرّكت هذه القوات بعد ذلك شرقاً باتجاه تونس للقضاء على القوات الألمانية الموجودة هناك.

لماذا اختير شمال إفريقيا ساحة لهذه المعارك؟

كان المخططون العسكريون مدركين أن الغزو الذي كانت تحاول فرنسا القيام به عام 1942 محكوماً بالفشل، لذا تم وضع خطط لمهاجمة ألمانيا في "عمق البحر المتوسط"، كما جاء على لسان "ونستون تشرشل"، ليبدأ بعدها غزو إيطاليا من تونس، وتبدأ الحرب الدموية الطويلة التي وصلت بعد ذلك إلى برلين.

ربما استفاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جيداً من دروس التاريخ، أو ربما كان مُولعاً بالخرائط، وأياً كانت هوايته، يبدو أنه مُلم جيد بعلم الجغرافيا. تختلف طبيعة تأثير موسكو اليوم بشكل كبير عن تأثير الاتحاد السوفياتي قديماً، عندما كان هذا التأثير يتلخص في جمع المزيد من الدول العميلة (ما عدا نشر القوات الروسية بشكل مستمر في سوريا). إن ما تقوم به روسيا اليوم في سوريا فعّال - أو فعال بما فيه الكفاية – لإبعاد حلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين عنها، بينما تقدم روسيا نفسها كشريك كُفء ومحايد، يتقاسم عدة مصالح مع اللاعبين الإقليميين. وهنا يكمن المنطق في استراتيجية روسيا بخصوص الشرق الأوسط وأوروبا: والتي تتمثل في ترسيخ النفوذ الروسي على حساب واشنطن، وإضعاف الموقف الأمريكي في المنطقة، ومن ثم الضغط على أوروبا عبر نقطة ضعفها، التي تمثل في هذه الحالة الجنوب والجنوب الشرقي من الاتحاد الأوروبي.

تسعى روسيا إلى ربط خط يمتد من العاصمة موسكو باتجاه دمشق ومن العاصمة السورية إلى أربيل الواقعة في إقليم كردستان العراق. الجميع يعرف ما حدث في سوريا: لقد دخل الروس الصراع هناك لإنقاذ حليفهم وساعدوه على إتمام حرب أدت إلى تهجير ملايين اللاجئين، شق الكثير منهم طريقه إلى أوروبا فيما لا يزال آخرون يقرعون أبوابها أملاً في دخولها. لقد كان تأثير هذا التدخل على السياسة الأوروبية عميقاً، حيث ساهم في حشد حركة يمينية شعبية وطنية في روسيا على حساب التجمع الأوروبي الليبرالي الذي ظهر في فترة ما بعد الحرب. يعلم الجميع كيف بدأت قصة سوريا، إلا أن قلة قليلة فقط في واشنطن لاحظوا أنه منذ عام 2017 استثمرت روسيا ما يزيد على أربعة مليار دولار في قطاع النفط والغاز الكردي، حيث يمتد النفوذ الروسي من أربيل إلى الشرق ومن كردستان العراق باتجاه إيران بحسب ما أفادت عدة تقارير.

يمثل خط موسكو - دمشق - أربيل – طهران، محوراً مهماً للنفوذ الروسي. لكن الخطوط الجغرافية الأخرى التي تسيطر عليها روسيا هي أكثر أهمية بالنسبة لأوروبا.

يبدأ أحد هذه الخطوط التي تربط روسيا بالعالم من العاصمة الروسية باتجاه الجهة الجنوبية من العاصمة التركية أنقرة. لم تألّب موسكو تركيا على الولايات المتحدة بشكل كلي، بل هو ما يحدث في سوريا، حيث يُعتبر بوتين صاحب النفوذ الأكبر، بالإضافة إلى النظرة التي يرى بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العالم والطبيعة المتغيرة للسياسة الدولية بعد الحرب الباردة، كلها أسباب جعلت من الشراكة التركية -الروسية أمراً ممكناً.

من المقرر أن يحصل الأتراك على نظام الدفاع الجوي الروسي المتقدم من طراز إس-400 في تموز/ يوليو من العام القادم، هذا بالإضافة إلى أن حجم التجارة التركية مع روسيا أكبر منه مع الولايات المتحدة، وقد حدد أردوغان كذلك كلا من موسكو ـ إلى جانب بكين وطهران ـ كبديل لواشنطن. كل هذا أدى إلى إثارة مخاوف (أغلبها مبالغ فيها) في الأروقة السياسية بواشنطن حول "فقدان تركيا"، أما بالنسبة للأوروبيين الذي تجمعهم علاقات تجارية مع أنقرة والذين يعتبرون الأناضول منطقة فاصلة بينهم وبين موسكو، فهم يرون أن العلاقات بين تركيا وروسيا مشكلة حقيقية.

يمرّ المحور الثالث هذه المرة عبر البحر الأبيض المتوسط ويتوقف في القاهرة، لينعطف يساراً وصولاً إلى بنغازي. يقدم الروس أسلحة ذات تقنية عالية ويتبنَّون سياسة لا تعترف بمفهوم حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بموقفهم الرافض للإسلام. بالنسبة لقادة مصر، تُعتبر روسياً بديلاً جيداً للولايات المتحدة، حيث لعبت مصر دوراً حاسماً في النظام السياسي الإقليمي القائم، الذي فضّل نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على مدى العقود الثلاثة الماضية.

وبدلا من عكس تأثير الغرب والدور الذي لعبه "هنري كيسنجر" خلال سبعينات القرن الماضي على مصر، قامت موسكو باستغلال القضايا التي كانت محل خلاف بين الأمريكيين والمصريين. أقضّ هذا الأمر مضجع القادة الأوروبيين، إذ إن نحو 10٪ من التجارة العالمية - معظمها من وإلى أوروبا - تمرّ عبر قناة السويس. إن وجود علاقات تربط مصر بروسيا يزيد من احتمالية مواجهة القوات البحرية الأمريكية والأوروبية عقبات أثناء أداء مهامها في شرق البحر الأبيض المتوسط لأول مرة منذ وقت طويل.

تُعتبر ليبيا الأهم، حيث تساعد على كشف أهداف موسكو في المنطقة، إلا أنه يبقى من غير الواضح مدى تورّط الروس في الجزء الشرقي من البلاد، غير أنهم وبكل تأكيد يشاطرون مصر والإمارات الرأي نفسه، والذي يتمثل في الوقوف بوجه أية تسوية سياسية تضم الإسلاميين لتشكيل حكومة طرابلس الجديدة. التقى الزعيم الليبي المحتمل "خليفة حفتر" مع المسؤولين الروس عدة مرات، وفي عام 2017، قام بوتين (وليس ذلك من قبيل الصدفة) بنشر وحدة صغيرة من القوات الروسية في قاعدة جوية غرب مصر على بعد نحو 60 ميلاً عن الحدود الليبية. دعا الروس القوى السياسية الليبية للتوصل إلى تسوية سياسية بشكل علني، لكن الأوروبيين يشكّون في أن موسكو تدعم حفتر.

قد تبدو ليبيا امتداداً لبوتين، الذي غالباً ما يقال عنه إنه لا يملك الموارد الكافية للإنفاق على السياسة الخارجية. فما الذي سيدفعه لتكبد عناء الاستثمار هناك؟

يعتبر الجزء الشرقي من ليبيا واحدا من أكبر احتياطيات العالم من النفط الخام الخفيف وخامس أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في أفريقيا. يذهب الجزء الأكبر من صادرات ليبيا من النفط والغاز إلى أوروبا. سيكون من المستبعد من الناحية الاستراتيجية ألا يتدخل بوتين في ليبيا، وهي مكان يمكن لروسيا أن تؤثر فيه على إمدادات الطاقة إلى أوروبا. يبدو أن بوتين قد فكر في هذه الاحتمالية بكل تأكيد.

في العام الماضي فقط، عارض الخبراء الروس تدخل بلادهم في سوريا، والحملة الإعلامية التي تقوم بها في أوروبا، كما اعتبروا ضم شبه جزيرة القرم مجرد مصدر للإزعاج. لقد أصبحت أهداف روسيا جلية الآن، مع ذلك، فإن الغرض من توغل روسيا في الحرب السورية والشرق الأوسط له أهداف تتعدى سوريا إلى هدف أكبر، ولتعرفه فقط ألقي نظرة على الخريطة.