الثلاثاء 2018/02/13

ملامح مدينة الرقة.. في ضمير العائدين

ماذا لو كنت رَقّياً.. نازحاً في أحد المخيمات تنتظر عودتك إلى بيتك بفارغ الصبر.. تتخيل جدرانه قبل أن تصطبغ بالأسود.. جيرانك وكيف تغيرت ملامحهم بعد غيابك عن بيتك منذ بداية معركة الرقة التي انتهت بانسحاب تنظيم الدولة باتفاق غير معلن مع المليشيات الكردية، ومباركة أمريكية.

تستقبلك عند عودتك جسور مدمّرة تضطرك للنزول من حافلة نقلتك من جحيم ذل المخيمات التي تشرف عليها مليشيات "قسد" إلى جنّتك التي تصوّرتها، وخرجت منها متجاوزاً الموت المحيط بما تبقى من حياة في مدينتك أثناء دوران رحى المعركة التي راح ضحيتها آلاف المدنيين، والهدف من ذلك كما زعموا... تحريرك من الإرهاب ونزع السواد من بياض ثلج الرقة.

تعبر مياهاً تفوح منها رائحة الموت.. إذ طالما التهمت أجساد مدنيينَ فارّين كانوا يحلمون بالعبور من ضفة الموت إلى ضفة الحياة ووقعوا ليصبحوا طعاماً لأسماك الفرات التي فرحتَ بصيدها ذات طفولة..

تُسرعُ يدا صاحبِ السفينة بالتجديف لما رآه على وجهك من ملامح الخوف جراء ما مرّ ببالك من الذكريات.. وكنت كذلك فعلاً.. تذكّرت طفلاً عمره عشرة أيام غرق مع أمه بعد أن أطلق أسود الظلام النار على قاربهما، كي لا يصلوا إلى بلاد الكفر، فما أقساها من ذكرى.. أن يقتلك أحدهم باسم الدين لأنك تريد النجاة ببدنك وولدك.

تصلُ ضفّةً طالما جلست عليها أيام الجُمَعِ أنت وأهلك، أيامَ ازدياد لهيب شمس صيف الرقة الذي لا يرحم..

تنزل من قاربك وتجلس قليلاً.. تأخذ نفَساً لترتاح من صراعٍ دار في ذهنك بين قسوةٍ وجمالٍ، مرّا بك وبهم فيما مضى، ليقطع الصمت صوت جنديٍّ يحمل بارودة، ولسانه يعرج محاولاً تقليد لهجتك.. قد يخطئ في مناداتك ويقول: "إنتي !!".. لا تغضب، وإيّاك أنْ تضحك من عدم معرفته بلُغَتِك، كي لا تستفزّه فأنتَ على أرض يعتبر نفسه فاتحاً لها وقد يُلغي تاريخَك فيها.. بقرارٍ أو رصاصة.

سيأخذ أوراقك ويوجّه لك بعض الاتهامات كي يستفزّ ما فيك من دموعٍ يستقوي بها عليك عندَ نزولها.. ويضيفُ إليكَ جرعةَ ذلٍّ أخرى..

وكي أكون أميناً معك.. فَقَدْ لا تنزلُ دموعك إذا كنت بِعْتَ بعضَ حليّ زوجتِك ولدَيْكَ فائضٌ من النقودِ.. سيأخذ منها القليل أو الكثير أثناءَ عمليةِ تفتيشك.

أيها الرقيّ العائد إلى بيتك.. أعرف أنك في لهفةٍ للوصول إلى ذلك "الكاروك" الذي نمتَ فيه ونامَ فيه بكرك.. سيدعكَ ذلك "الهافال" تعبرُ بعدَ حين، فلا تجزعْ وتقررُ العودةَ من حيثُ أتيت.

لا تنتظر أن تقفَ لك سيارة وتعرضَ عليك إيصالكَ حيث تشاء.. عليكَ البحثُ عنها فإن وجدتَها فاعلمْ أنّ هناكَ مناطقَ يجبُ عليك أن تدفعَ للوصول إليها ثلاثةَ أضعافِ المبلغِ، وخاصةً إذا كنتَ من سكانِ "قلبِ الرقة"، فالقلبُ مليءٌ بالأوجاعِ والهمومِ...

ستمشي السيارةُ.. ببطء.. فحاولْ أن تأخذ معك "زوَّادةَ ذكريات" لتعرف أين أنت.. لن تجد الملامح التي كانت يوم خرجت، فنزع السواد من الرقة جرّدها من كثير من الجمال، أعرف أنك تصفني بالمتفائل، وأعرف أنّه جردها من الجمال كلّه، ولكنّي أحاول تخفيف ما أنت عليه في هذه اللحظة.

نسيت أن أخبرك بأن تأخذ معك زوادة صبر.. لأنني لأ أعرف بالضبط أين يقع بيتك.. لكنت أخبرتك بألا تعود.. إنه البيت الذي تم تدمير "الحارة" التي يقع فيها بأكملها، فقد رأى الطيار أثناء رحلة صيده السماوية، سواداً واحداً يمشي على الأرض، فقرر أن يمحوه هو وخطاه، اعذره أيّها الرقي فهو لم يسمع زغاريد جاراتكم يوم ولادتك، لم يلحظ دموع أمك أيام كنت تتأخر في سهرتك وهي تنتظرك، لم ينتبه لفرحتها وهي تراك عائداً من المدرسة مع أصدقائك، أرجوك اعذره أيها الرقيّ.. وعُدْ خطوتين إلى الوراء.. وخذ قرارك.. ابنِهِ أو اتركه.. إلى غير عودة.