الخميس 2017/07/20

مفاوضات السراب … هكذا يراوغ الأسد

عندما تفاوض طرفاً يقول إن فرض الحصار وتطويق المدن والبلدات الثائرة يعتبر واجباً وطنياً يقوم به جيشه، وأن عمليات التهجير القسري التي ينتهجها ليل نهار ضد مناطق بأكملها توصيف باطل، وهو إنما يفعل ذلك تلبية لرغبات المواطنين المقيمين في مناطق تواجد المسلحين، ثم يستمر هذا الطرف بنفي وتبرير كل جرائمه بنفس هذه الوتيرة، فأنت لا تفاوض أحداً حقيقةً، أنت تفاوض سراباً وأشباحاً تتوهّم وجودهم؟!

في مقابل غزارة الأوراق التي تقدمها وفود المعارضة في المفاوضات لإثبات انخراطها الجدّي بها، والحصول على ثناءات من دي مستورا وسفراء الدول الأصدقاء، فهناك شحّ شديد في الأوراق التي يقدمها وفد النظام. هذا أتاح للنظام أن يبقى ثابتاً على مواقفه فيما المعارضة تتنازل في طيّات أوراقها جولة بعد أخرى.

من الأوراق النادرة التي قدمها النظام رده في أستانا على مقترح اتفاق تثبيت وقف إطلاق النار أوائل عام 2017، يظهر فيها وفد النظام كرئيسه تماما حين يحكم الصحفيون المحترفون عليه بعد لقائه أنه شخص منفصل عن الواقع، منكر لكل ما يحدث في بلده، الصحيح أن هذه استراتيجية تشمل النظام بأكمله رئيسه وجيشه وحكومته وإعلامه ووفده المفاوض، أزمة البلاد عندهم جميعاً لا تعدو مجموعة مشاغبين "إرهابيين" يجب القضاء عليهم، وهذا الحكم عندهم ينطبق على وفدي المعارضة: العسكري في أستانا والسياسي في جنيف، والقبول بالجلوس معهم على طاولة المفاوضات لم يكن اعترافاً بشرعيتهم أبداً، الشرعية التي تتوهّمها وتسعى إليها الفصائل المسلحة –خشية التصنيف- أكثر من المعارضة السياسية التي أمضت جنيف 7 في إثبات شرعية منصة منها وإبطال أخرى، فيما النظام لا يعترف بهم جميعاً، وإنما وتماشياً ظاهرياً مع القرارات الدولية، واستجابة لرغبة روسيا يرسل وفده لتقطيع الوقت مستمراً في تغيير الحقائق على الأرض، واستعادة السيطرة على البلاد بكاملها بالقتل والتدمير حيناً، وبالحصار والتهجير وفرض الهدن والمصالحات حيناً آخر، فالمفاوضات هي آخر أمر يمكن أن يشغل باله.

هذه الدراسة تستعرض ورقة النظام المشار إليها آنفاً التي يرد فيها على مقترح لتثبيت وقف إطلاق النار (المقدّم من قبل المجموعات الإرهابية المسلحة) حسب تعبير النظام!!

1- الجميع يعلم أن جوهر المفاوضات كلها يتمحور حول تنفيذ بيان جنيف 30 حزيران/يونيو 2012، والقرارات الدولية التالية له وخصوصاً 2118/ و2254، التي تركز على إنشاء هيئة الحكم الانتقالي كأساس لعملية الانتقال السياسي في البلاد، صحيح أن مجلس الأمن أصدر قرارات عديدة تتعلق بمسائل أخرى كإدخال المساعدات الإنسانية، ومكافحة الإرهاب، واستخدام الأسلحة الكيماوية، وغيرها، إلا أن هذا لم يمنع مجلس الأمن من إدراج بيان جنيف وهيئة الحكم الانتقالي في كل قراراته تقريباً كحل وحيدللأوضاع في سوريا.

لنرَ ماذا يقول النظام في ردّه: (إن إدراج بعض القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، وتجاهل البعض الآخر ومنها مثلاً 2253 المتعلق بمكافحة الإرهاب هو تصرف استفزازي، ويعيد المباحثات إلى نقطة الصفر، كما يعتمد المقترح على بيان جنيف 2012 والذي يشير إلى هيئة الحكم الانتقالية، وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلاً من قبل الحكومة السورية).

إذا كان النظام يرفض هيئة الحكم الانتقالية جملة وتفصيلاً فالمفاوضات هي مفاوضات السراب لا أكثر.

طبعاً المفارقة هنا وكما هو متوقع من غباء النظام أنه يطالب بإدراج القرار 2253، فيما هذا القرار يشير في ديباجته إلى القرار 2249 الذي ينصُّ على أن مجلس الأمن "يشدد على ضرورة تنفيذ بيان جنيف المؤرخ 30 حزيران/يونيه 2012 المعتمد بصفته المرفق الثاني من قراره 2118 (2013) والبيان المشترك عن نتائج المحادثات المتعددة الأطراف بشأن سورية الصادر في فيينا بتاريخ 30 تشرين الأول/أكتوبر 2015 وبيان الفريق الدولي لدعم سورية المؤرخ 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015".

مطالبة النظام بإدراج القرار 2253 يعتبر موافقة ضمنية عليه، وبالتالي هو يوافق على بيان جنيف الذي ينصُّ في فقرة: خطوات واضحة في العملية الانتقالية على (تشمل الخطوات الرئيسية لأية عملية انتقالية ما يلي:

(أ) إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية . وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة).

إذن النظام يوافق على هيئة الحكم الانتقالية فيما هو يقول في رده أنه أمر مرفوض جملة وتفصيلاً، لكن انتقائية النظام المعروفة عنه في محاولة استخدام بعض قرارات مجلس الأمن التي يرى أنها تخدمه هي التي تدفعه للإشارة إليها أحياناً وتوقعه في مثل هذا المطب، مع أنه بالمجمل يكيل الاتهامات لمجلس الأمن بالتآمر عليه والانحياز ضده بوقوفه إلى جانب معارضيه.

للعلم فقط أيضاً القرار 2118 يؤيد بيان جنيف، كذلك أشار بيانا فينا في بنودهما إليه.

2- عندما تتدخل الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وتنشأ مجموعات دولية لحل نزاع ما، فمن البديهي أنهم سيطرحون حلولاً تتفق مع القانون الدولي للوصل إلى تسوية ما، وأنهم يعلمون يقيناً أن ما يطرحونه قد يختلف أيضا بشكل ما مع (القوانين والمراسيم والتشريعات) المعمول بها بين بلدان النزاع، أو ما هو معمول به في بلد النزاع إن كانت المشكلة بين طرفين داخله، فليس من المعقول أن يتدخل جميع هؤلاء لاقتراح اتفاقات وحلول سيقول عنها أحد الأطراف أنها باطلة لأنها تخالف (القوانين والمراسيم والتشريعات) الوطنية.

هذا فقط يفعله نظام الأسد حين يقول في ردّه: (لا يمكن لأي اتفاق أن يسمو على القوانين والمراسيم والتشريعات النافذة في القطر، والصادرة بموجب الدستور الحالي الذي يحدده النظام القانوني).

إذن نحن أمام رفض كامل لأي اتفاق يخالف قانون ودستور النظام، بمعنى نحن أمام رفض كامل لأي قرار صدر وسيصدر عن مجلس الأمن لا يراعي قوانين ومراسيم وتشريعات النظام النافذة حالياً، وعلى رأس ذلك هيئة الحكم الانتقالية، فتوصيفها في القرار 2118 أنها (تمارس كامل السلطات التنفيذية)، وتوصيفها في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/262 أنها ( تخوّل لها كامل السلطات التنفيذية، وتحول إليها جميع مهام الرئاسة والحكومة، بما فيها المهام المتعلقة بالمسائل العسكرية والأمنية والاستخباراتية، وإعادة النظر في الدستور على أساس حوار وطني يشارك فيه الجميع وإجراء انتخابات حرة نزيهة متعددة الأحزاب في إطار هذا النظام الدستوري الجديد).

النظام هنا أمام عاصفة هوجاء من القرارات الدولية التي تمهد لعملية الانتقال السياسي في ظل هيئة الحكم الانتقالي واستنادا لقوانين ودساتير وطنية جديدة، وليس في ظلّه واستناداً لقوانينه وتشريعاته، وهو إذا سمح لها أن تصل لطاولة المفاوضات فسيكون في ورطة بلا شك، لذا لجأ إلى هذه الاستراتيجية بوجوب أن تنصاع الدول والأمم المتحدة لقوانينه في المقترحات التي يقدمونها حتى تكون صالحة من طرفه للنظر فيها.

يمكن القول هنا أيضاً: إذا كان النظام يرفض القرارات الدولية بهذا التبرير فالمفاوضات هي مفاوضات السراب لا أكثر.

3- من أهم أدوات الأمم المتحدة في حل النزاعات إنشاء آليات لمراقبة وقف إطلاق النار حال الاتفاق عليه، ومن ذلك إرسال قواتها الأممية للفصل بين القوات على خطوط التماس، وضبط سبل التدخل لمنع وقوع اشتباكات بين الأطراف الوقعة على الاتفاق، وطرق التعامل مع مرتكبي الخروقات حسب الصلاحيات الممنوحة لها، ورفع تقاريرها الدورية لمجلس الأمن.

لنرى الآن كيف تعامل النظام مع هذه المسألة في ردّه موضع الدراسة.

يقول النظام: (طالما أن اتفاقية وقف الأعمال القتالية تمّت بضمانة روسية، فلا يوجد هناك ضرورة للمراقبة الدولية، وهو بالمحصلة أمر مرفوض من قبل الحكومة السورية).

من نافلة القول إن الروس طرف يقاتل على الأرض السورية بجميع صنوف أسلحته وقواته البرية والبحرية والجوية، فكيف سيراقب نفسه أولاً، وهو دخل بصفته حليفاً وداعماً للنظام فكيف سيراقبه ثانياً؟

يؤكد النظام في ردّه على هذه الجزئية بقوله: (لا داعي للقوات الدولية باعتبار أن دخول قوات دولية ليس في مصلحة الحل).

ويؤكد ذلك مرة ثالثة بقوله: (لا يمكن القبول بمراقبين دوليين متعددين الجنسيات).

وللنظام كذلك رأي في رفع التقارير للأمم المتحدة يقول فيه: (لا حاجة لرفع تقارير إلى الأمم المتحدة، بل يكتفى بإبلاغ الطرف الضامن عن كل الخروقات).

إذا جمعنا الفقرات الثلاث السابقة إلى بعضها البعض نستنتج أن النظام لا يعترف بدور للأمم المتحدة مطلقاً، لا بقراراتها ولا بأدواتها في حل النزاعات، ويريد بذلك إيجاد حل خارج مظلتها، ولهذا هو يعمل على إصابة العملية التفاوضية في جنيف بالشلل التام.

4- أيضاً من القضايا التي تفاوض عليها المعارضة الأوضاع الإنسانية مثل إدخال المساعدات وتسهيل حركة المدنيين وإطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار، وتعتبرها أحيانا شروطاً مسبقة لبناء الثقة، ومن باب إثبات حسن النوايا.

 

كيف ينظر النظام إلى هذه القضايا الإنسانية؟

في معرض ردّه على أن عرقلة أو تقييد حركة المدنيين تعدُّ خرقاً لاتفاق وقف إطلاق النار يقول النظام: (أما تسهيل حركة الدخول والخروج فهو أمر غير مقبول في المرحلة الحالية، بل يمكن الاتفاق عليه بعد البدء بالتسوية السياسية).

وردّاً على أن فرض الحصار أو التطويق يعدُّ خرقاً يقول النظام: (من واجب الجيش العربي السوري، وليس فقط من حقّه أن يتخذ كافة الإجراءات المناسبة التي تحفظ الاستقرار والأمن في البلاد، ومنها مثلاً تطويق أماكن الخلل).

وفي ردّه على قضايا التعذيب والعنف الجنسي والمضايقات وأخذ الرهائن و

اعتقال المدنيين والاستيلاء على ممتلكاتهم الخاصة يقول النظام عن الاتهامات الموجهة له أنها: (مرفوضة جملة وتفصيلاً، والمجموعات الإرهابية هي التي تقوم بذلك).

أما التهجير القسري الممنهج والتغيير الديموغرافي فيقول النظام عنه: (حقيقة الأمر أن الحكومة السورية لا تمارس ذلك، بل تقوم بتلبية رغبات المواطنين المقيمين في مناطق تواجد المسلحين)، (وهذا ليس فقط من حق الحكومة السورية بل هو واجب وطني وحاجة ملحة)، وأنه كان يجري (كما حصل في داريا مثلا، وكان ذلك بناء على طلب من ممثلي الأمم المتحدة).

إذن النظام يغلق الحديث تماماً عن القضايا الإنسانية وشروط بناء الثقة، فعلى ماذا يفاوض المفاوضون؟!

5- يظهر نقص الخبرة الشديد عند مفاوضي المعارضة حين صياغة هذا الطلب (تحييد المدنيين بشكل كامل وإيقاف القصف على المناطق السكنية حتى لو وجد عناصر من التنظيمات المصنفة إرهابياً في هذه المناطق)، لكن الأنكى منه كان ردَّ النظام بقوله: (إن الغاية من مثل هذه المعاني هو الاتهام المباشر بأن القوات النظامية تقصف المدنيين، والثابت عملياً هو أنه عندما يسيطر تنظيم داعش أو النصرة على منطقة ما، فإن الأهالي يبايعونها حكماً سواءً أكان ذلك برغبتهم أم لا، وبالتالي أصبحوا منهم، ولا فارق بينهم).

هذا النص بالذات المكتوب بيد النظام في وثيقة رسمية، والمسلّم للدول الضامنة ولوفد المعارضة في أستانا يجب أن يصل إلى جميع الدول والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، ومحاكم جرائم الحرب فهي اعتراف صريح من النظام بقصف واستهداف المدنيين عمداً، طبعاً بالذريعة التي ذكرها، والسؤال هل ستكون كافية عند الخبراء الدوليين لعدم مساءلته وملاحقته قانونياً.

أمر آخر .. من هذا الجواب لنا أن نتخيل ما سيحدث للسكان المدنيين الذين يهجّرهم النظام إلى إدلب الواقعة تحت سيطرة النصرة، حيث هم حسب اعتباره أصبحوا من عناصر النصرة "سواءٌ أكان ذلك برغبتهم أم لا" كما قال.

 

التوصيات:

 

1- يجب على هيئة المفاوضات العليا، ووفدها المفاوض قيادة ملف المفاوضات حصريّاً، أما منصات القاهرة وموسكو فيجري الحديث معها من قبل الهيئة خارج إطار المفاوضات وبعيداً عن تدخلات دي مستورا للاتفاق معهم حول وفد موحّد في الجولات القادمة.

2- كما هي صلابة النظام في اعتماد مرجعية القوانين والتشريعات النافذة في البلاد كأساس لقبول أي اتفاق، وعدم انخراطه في أي مفاوضات جدية حول قرارات الأمم المتحدة، وعدم رده على أي أوراق أو طروحات جديدة يقترحها دي مستورا عدا الرد الوحيد تقريباً على ورقة المبادئ، فيجب على هيئة المفاوضات العليا أن تكون صلبة وحازمة في اعتماد مرجعية القرارات الدولية كأساس يجري التفاوض حوله، وعدم السماح لديمستورا بطرح أي حلول أو وثائق لا تتطابق تماماً مع القرارات الدولية. ولا السماح له بإدخالها في دهاليز الرد على أوراقه وأسئلته التي يفاجئهم بها في كل جولة

3- يجب على هيئة المفاوضات العليا أن تتوقف عن إصدار أي مبادرات أو رؤى سياسية للحل، أو كإطار لتنفيذ بيان جنيف وباقي قرارات مجلس الأمن حتى يعلن النظام بشكل صريح راضياً أو بضغط دولي أنه يقبل بها كأساس للتفاوض حولها، مما يمهّد للمفاوضات المباشرة مع وفد النظام.

4- المجموعات أو الورشات التقنية: الدستورية والانتخابية والحكم ومكافحة الإرهاب، يجب على الهيئة المشاركة فيها بوفد واحد تسمّيه هي، يضم خبراء من جميع الاختصاصات، لا أن تشارك في كل مجموعة بوفد مختلف ضماناً لعدم تجزئة المسارات، وجعلها كجزر معزولة، كما يجب عدم تسليم نتائج هذه الورشات لدي مستورا، وإنما تكون في عهدة الهيئة إلى أن تقرر في الوقت المناسب وضعها على طاولة المفاوضات. عندها لن يكون مهماً تقديم وتأخير أولويات هذه المجموعات لأنها ستستخدم في النهاية في لحظة واحدة، وكحزمة اتفاق واحدة.