الأربعاء 2016/07/20

تركيا والتنظيم الموازي

سقط الاتحاد السوفيتي وتفكك، وانتشرت الفوضى من الشيشان إلى شمال أفريقيا إلى العراق وصولا لسوريا.

ثم عمّت الاضطرابات في مصر، انتقالا إلى أوروبا بموجات المهاجرين المستمرة، وبالنزوع الانفصالي مع الأزمة الاقتصادية، ثم جاء الانقلاب في تركيا.

في ظل ذلك كله؛ العالم يموج بحثا عن توازن جديد، ولكن طبيعة الحدث في تركيا رغم أنه جاء في سياق عالمي وإقليمي مُضطرب كان مختلفا؛ فهناك دولة حققت تقدماً مذهلاً في جميع النواحي قياسا لما سبق حكومتها القائمة من حكومات، وقد عمّت آثاره كل المجتمع، وهي دولة ديموقراطية لم يطعن أحد في نتائجها الانتخابية، فكيف يحدث فيها انقلاب؟

الانقلاب هنا بحسب تصريحات المسؤولين الأتراك؛ قام به التنظيم الموازي الذي يُدار من بنسلفانيا في أمريكا على يد فتح الله غولن!

وبطبيعة الحال انهالت الشتائم على هذا التنظيم وقيادته في بنسلفانيا من قبل كل محبي تركيا والعدالة والتنمية والرئيس أردوغان، وإن صح قيامهم بالمؤامرة أو اشتراكهم فيها فعلا فهو أمر يستحق الإدانة، وكان سيقود تركيا إلى الوراء عشرات السنين، وربما قاد لتفككها ووقوعها في الفوضى.

ونحن هنا لسنا بصدد إثبات براءة التنظيم أو إدانته، ولكننا نريد أن نتفهم فكرة التنظيم الموازي الذي انتفض على أثره العديد وأدانوه، ونتدارس أبعاد تلك الفكرة، وهل هي متعلقة بفتح الله جولن أم هي عامة حتى في فكر منتقديه.

نريد أن نتعرف على فكرتها وظروف نشأتها ونماذجها ومآلاتها، فلا تضيع اللحظة في تفريغ الغضب بل في زيادة الوعي.

التنظيم الموازي بالتعريف؛ هو تنظيم سري يعمل على التمركز في أهم مواقع الدولة، ويعمل بتوجيهات مختلفة عن القنوات الرسمية لصالح الأيديولوجيا التي يحملها، ممثلة في قيادات ليست لها صفة رسمية في الدولة.

وهي تنشأ في محورين مُحددين، الأول: أيديولوجيا قوية تبحث عن تمثيل سياسي، والثاني: نظام مغلق لا يسمح بالتداول السلمي للسلطة.

ونماذجها كثيرة عبر التاريخ؛ من نشأة الحركات السرية المعارضة والتي طبقها اليسار في الخمسينات والستينات عبر أحزابه التي قامت بانقلابات كثيرة، وقادت بالتالي لثورات متعددة في مناطق كثيرة من العالم، منها كذلك العالم العربي سواء في مصر أو العراق أو الشام أو اليمن، ثم انتقلت إلى الجماعات الإسلامية في كفاحها لإنتاج الدولة الإسلامية والخلافة، والتي لم تنجح في تطبيقها إلا في السودان عبر تنظيم الدكتور الترابي وانتهت بإسقاط الدولة.

وهي في الحالة الإسلامية كانت تنتهي باجتياح قطار الدولة لتلك التنظيمات المرّة تلو الأخرى عبر تاريخ طويل من الكر والفر والمعتقلات والإعدامات والسجون، ففكرة التنظيم الموازي هي عين فكرة التنظيم الشامل؛ الذي يطمع أن يبتلع الدولة أو يفرغها من محتواها عبر التمركز الداخلي كمقدمة لتطبيق الفكرة الأيديولوجية السياسية .

هنا في تركيا نشأت ذات الحالة التي في الوطن العربي، فمع وجود أشواق إسلامية وأيديولوجيا ذات بُعد سياسي ووجود نظام علماني قمعي؛ تولد نموذجين من أشكال العمل الإسلامي، فهناك النوارسة أتباع بديع الزمان سعيد النورسي، وهو عالم كردي بدأ حياته بمواجهة حزب الترقي العلماني وخاض الصراع السياسي، ثم في آخر حياته انتقل لفكرة أخرى ليقول: "أعوذ بالله من السياسة" وأن مهمتنا استنقاذ الإيمان في عصر أصبحت مشكلته التوحيد لا النظام السياسي، فتوجه بكل جهده لهذه المهمة كتابةً ودعوة، والتحم الخط بمزاج تركي عام منتسب لجلال الدين الرومي وهو عالم من بلخ في أفغانستان، حنفي فقيه ترك العلم للتصوف والذكر، وقدم دعوة متسامحة اتجاه الآخرين، وهو طابع شكل المزاج التركي الذي تقبّل كل الملل، وقد اعتنت هذه المدارس الروحية بفكرة إنشاء المدارس والتوجيه للإسلام الاجتماعي بدلا من الإسلام السياسي.

ومن رحم الفكرة النورسية جاءت فكرة فتح الله جولن الذي تشير بداياته إلى حفظه القرآن وهو في الرابعة من العمر، ودراسته للعلوم الإسلامية التقليدية على أساتذة عصره وتمكنه منها وانتقاله لدراسة العلوم المعاصرة العلمية والفلسفية، ومن ثم تحوله لإمام وواعظ تحرك في كل أرجاء تركيا.

تبلورت أفكاره من أفكار أستاذه بديع الزمان النورسي، ثم تحول لفكر مغاير له أثره على الساحة الإسلامية، وتقوم فكرته على الإسلام الاجتماعي، حيث أنشأ آلآف المدارس الراقية في تركيا والعالم، وعارض توجه أربكان للعداء مع الغرب، وتواصل مع كل المؤسسات الدولية وأعلن أن تركيا لا تحتاج لتطبيق الشريعة بالمعنى المتعارف عليه ولكن تحتاج للحريات والعدل والديموقراطية، ومن هنا يرى البعض أنه أستاذ أردوغان، وسبب إنشاء حزب العدالة والتنمية بصيغته المتصالحة مع الأتحاد الأوروبي ومعاييره، ومع انتشار أفكاره وتلاميذه في كل الدولة بدأ المجتمع ينقسم حوله داخليا وخارجيا، فهناك من رأى أن مصلح يوفق بين الحداثة والاعتدال والإسلام، أما الدولة التركية فاعتبرته شخصا خطيرا يريد الإطاحة بالعلمانية عبر أسلمة المجتمع.

ومن هنا كانت سنة 1999 سنة فاصلة؛ حيث أدلى بتصريحات اعتبرتها الدولة التركية هجوما على مؤسساتها مما اضطره للخروج من تركيا، وفتح تحقيقات واسعة في شأن مدارس وصلتها بالتعليم الديني، ولم يتم ربطه بأي شيء معادي للدولة حينها، وهنا نشأت الأزمة التالية معه ثانية أثر تسريب شريط فيديو له وهو يقول لأتباعه أنه سيعمل ببطئ لتغيير النظام التركي العلماني إلى نظام إسلامي وأنه سيدخل الثقافة التركية إلى أوزبكستان مما أنشأ توتراً حاداً بينها وبين تركيا، وأدى لإغلاق مدارسه فيها وزيادة الضغوط على مؤسساته في تركيا .

فتح الله جولن استطاع أن ينشر أتباعه في كل مؤسسات الدولة ومفاصلها قبل وصول الإسلاميين (العدالة والتنمية) للسلطة، وأراد أن يحكم الدولة من الداخل ويفرغ مؤسساتها من معناها الحقيقي. فالتنظيم الموازي يعني بالضرورة أن القوة الحقيقية موجودة في غير المؤسسات الظاهرة في المجتمع.

ومع قدوم أردوغان بدت مرحلة ود قصيرة بإعطاء حزب العدالة والتنمية ترضية لفتح الله جولن عن طريق إدخال عدد من النواب على قائمة الحزب، وطالب جولن حينها بأكثر من ذلك ولكن لم يُستجب له وقرر التصعيد بشن حرب تسريبات عبر رجاله في أجهزة الاستخبارات لمكالمات وفيديوهات مست المحيطين بأردوغان، ووصلت تلك التسريبات لاجتماعات أمنية وعسكرية في الدولة مما كان لأردوغان أن يعلن حرباً شاملة على التنظيم ومؤسساته، فالدولة الحديثة لا يمكن أن تدار بغير أجهزتها الرسمية على أية حال، وهنا وصلت الحرب إلى نقطة اللاعودة .

لم يكن غريباً أن يحدث الانقلاب، وليس غريبا أن تشارك فيه الجماعة أو حتى تخطط له سواء بعلم جولن أو بعدم علمه، وهو ما ستثبته التحقيقات أو تنفيه، وإلى هنا انتهت الحكاية حتى اليوم، ولكن؛ ماذا نستفيد من كل ذلك في منطقتنا العربية ؟

أولا: فكرة التنظيم الشامل ومعه فكرة التنظيم الموازي؛ هي إحدى المرتكزات التي تمثل جزءً كبيرا من الناشطين الإسلاميين، فجولن لم يكن الوحيد الذي فكر بها، ولكنه مع الدكتور الترابي وصلوا إلى ذروتها، والأول أخفق بعد الانقلاب، والثاني لم ينجح في الانقلاب أصلا.

ثانيا : التنظيم الموازي هو كمن يضع سيارته في طريق القطار، وطال الزمن أم قصر سيصدم قطار الدولة بهذه السيارة، ففي السودان اصطدمت الدولة ممثلة بالبشير مع التنظيم الموازي وفككته من جسمها، واستبقت ما يخدمها منه، وفي تجربة جولن اصطدمت الدولة بقيادتها الإسلامية بالتنظيم في حرب تكسير عظام.

ثالثا: منطق الدولة باعتبارها مؤسسات حقيقية ظاهرة، ومنطق التنظيم الموازي المتحكم سرا منطقان صفريان لا يقبلان التعايش سوياً.

لم يتفكر جولن أو أتباعه ربما في تلك القضية البديهية، فكانت النتيجة أن خسرت تركيا أرواحاً عزيزة وطاقات استراتيجية تربّت في مدارس راقية ومؤسسات كبرى واعدة منتشرة في العالم.

إنّ ما حدث ليس مجالاً للتشاتم، ولكن مجالاً للاعتبار في بيئات لا زالت تحمل ذات المنطق دون أن تستشعر خطورته.