الخميس 2018/01/11

“الدب الروسي الجريح”.. من أفسد على بوتين “نشوة النصر” في حميميم؟!

لم تكن نهاية 2017 جيدة بالنسبة لمستقبل الوجود الروسي في سوريا، إذ ودّعت موسكو العام الذي حققت فيه "أكبر إنجازاتها" هناك عبر سيطرتها على مناطق لتنظيم الدولة وسط وشرق سوريا، بحادثة لن تكون مجرد حدث عرضي أو خبر عابر، بل بدا الأمر رسالة من أحد ما أراد أن يُفسد على بوتين "نشوة النصر" مع آخِر يوم في سنة إنجازاته الكبيرة، ويهمس في أذنيه: لا تسافر بك أحلامك بعيداً .. نحن هنا.

في عددها الصادر بالرابع من الشهر الجاري ذكرت صحيفة "كومرسانت" اليومية الروسية، نقلاً عن مصادرها  ( أن 7 طائرات روسية على الأقل دُمّرت عندما أطلق "مسلحون من المعارضة" قذائف على قاعدة حميميم الجوية في 31 ديسمبر/كانون الأول ).

وقال التقرير إنه "في أكبر خسارة تتكبدها روسيا في العتاد العسكري منذ أن بدأت حملة الضربات الجوية في سوريا خريف العام 2015، أصيب أيضا أكثر من عشرة عسكريين روس".

وأوردت الصحيفة على موقعها الإلكتروني نقلاً عن مصادرها أن القصف دمّر ما لا يقل عن أربع قاذفات من الطراز سوخوي-24 ومقاتلتين من الطراز سوخوي-35 إس، وطائرة نقل من الطراز أنتونوف-72 ، فضلا عن مستودع ذخيرة. وهو في واقع الأمر مشهد يوحي بأن روسيا دخلت ذاك اليوم معركة كبرى وتعرّضت لهذه الخسارة الفادحة. وزارة الدفاع الروسية سرعان ما علقت على خبر "كومرسانت"، وأقرّت أن جنديين تابعين لها قتلا في الهجوم، ونفت تعرض 7 طائرات للتدمير.

ما حاولت وزارة الدفاع الروسية نفيه بشكل رسمي، قام بكشفه صحفي عسكري روسي "رومان سابونكوف"، نشر صوراً على وسائل التواصل الاجتماعي لطائرات مدمرة في قاعدة حميميم، وقال في حديث لـ"بي بي سي" إنه حصل على الصور من مصدر يمكن الوثوق به. ومن الواضح أن هذا المصدر يُفترض أن يكون جندياً في القاعدة قام بتصوير الحطام بعد الهجوم.

وفي الوقت الذي كانت فيه روسيا تلملم جراحاتها عقب الهجوم، وبالتحديد في السادس من كانون الثاني (بعد أسبوع من الهجوم الأول)، تعرّضت موسكو لهجوم آخر كبير، قالت إنها تصدّت له بلا خسائر، وقالت وزارة الدفاع الروسية بعد الهجوم بيومين إن سِرباً من الطائرات المسيرة المزوّدة بأسلحة، نفّذت هجمات على قاعدتيها الجوية والبحرية في حميميم وطرطوس، مشيرة إلى أنها لم تؤدّ إلى سقوط ضحايا أو أضرار. وفي التفاصيل أن 10 طائرات مسيرة من طراز "درونز" أغارت على حميميم، و3 هاجمت قاعدة طرطوس البحرية.

لم يعلن أي طرف مسؤوليته عن الحادثة، غير أن عسكريين روساً اتّهموا بشكل أوّلي "حركة أحرار الشام" بتنفيذ الهجوم على القاعدتين، وقالت صحيفة "كومرسانت" إن الروس "تمكّنوا من فكّ تشفير معطيات الدرونات التي تمت السيطرة عليها وإسقاطها سالمة".

ووفقاً لما نقلته قناة "روسيا اليوم" عن الصحيفة، فإن العسكريين الروس قالوا إنه "من المستحيل تجميع الطائرات من دون طيار دون مساعدة مختصين من أصحاب الخبرة في تكنولوجيات الدرونز المصنعة على شكل طائرات من دون طيار، تعمل باستخدام نظام GPS". واستنتج الخبراء الروس -بحسب الصحيفة- أنه تم استخدام صواعق أجنبية الصنع خلال تحضير العبوات المتفجرة المركبة على طائرات الدرونز. كما قالت وزارة الدفاع الروسية عبر بيان لها: "استخدام طائرات من دون طيار القاذفة من النوع المجنح في سوريا من قبل المسلحين يظهر أنه تم تسليمهم التقنيات لارتكاب الأعمال الإرهابية باستخدام طائرات بدون طيار في أي دولة."

التقطت واشنطن إشارات وتلميحات روسية تتهمها بالوقوف وراء الهجوم الذي كان بمثابة إذلال لموسكو في عقر دارها بسوريا، وقال المتحدث الرسمي باسم البنتاغون أدريان رينكين غيلوي،"إن التكنولوجيات المستخدمة خلال هجوم درونات الإرهابيين على مرافق عسكرية روسية في سوريا، يمكن الحصول عليها بسهولة في السوق المفتوحة، وهو أمر يدعو إلى القلق".

وزارة الدفاع الروسية ردّت على كلام واشنطن بأنها "لم تُشِرْ إلى ضلوع دولة محددة" بالنسبة لتسليم المسلحين تِقنيات الهجوم؛ غير أن الوزارة عادت ووجّهت "اتهامات ضمنية" لواشنطن وقالت : "يجب القول إن عملية برمجة وحدات التحكم، بدرونات من نوع الطائرات وتنظيم عملية رميها للذخيرة، بواسطة نظام GPS، يتطلب وجود معارف هندسية كبيرة ولائقة بدولة من الدول المتطورة. ولا يستطيع إلا القلة الحصول على الإحداثيات الدقيقة على أساس بيانات الاستطلاع الفضائي. ونود من جديد التأكيد على أن كل هذه الإمكانيات والقدرات لم تكن موجودة لدى الإرهابيين حتى وقت قريب...

شكل هذا البيان تصعيداً نوعياً وخطيراً من قِبل روسيا حول تحديد الجهة التي نفّذت هجوم حميميم وطرطوس، ويُقرأ هذا التوجيه على منحيين:

الأول: أن دولة متطورة هي من نفذت الهجوم.

الثاني: أن دولة متطورة أمدّت من تسمّيهم موسكو "بالإرهابيين" بالأدوات اللازمة للقيام بالهجوم.

ثم لم تلبث الدفاع الروسية أن وجَّهت الاتهام بشكل مباشر للولايات المتحدة، يتابع البيان: "كل ذلك يدفعنا للنظر بشكل جديد على المصادفة الغريبة وهي: لماذا حلّقت فوق المياه الفاصلة بين حميميم وطرطوس طائرة الاستطلاع الأمريكية "بوسيدون" على ارتفاع 7 آلاف متر، ولمدة تزيد على 4 ساعات بالتزامن مع هجوم الدرونات الإرهابية على القاعدتين الروسيتين ؟".

البنتاغون علّق على بيان الدفاع الروسية بالتقليل من أهميته، وأكد أن أيَّ تلميحٍ عن تورط واشنطن أو التحالف الدولي في الهجوم على حميميم هو "غير مسؤول ولا يستند على أية وقائع".

سارعت روسيا بعد ذلك إلى تغيير إفادتها وقراءتها للهجمات، وقالت الدفاع الروسية إن الدرونات التي هاجمت قاعدة حميميم انطلقت من جنوب غرب منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب، في نقطة "خاضعة لتشكيلات مسلحة تابعة لما يسمى بالمعارضة السورية المعتدلة". كما بعثت وزارة الدفاع الروسية رسالة إلى رئيس الأركان العامّة للقوات المسلحة التركية، وأخرى لرئيس جهاز الاستخبارات التركية. وجاء في الرسالتين "أن أنقرة يجب أن تنفّذ الالتزامات التي تعهّدت بها في مجال ضمان مراعاة نظام وقف العمليات القتالية من جانب الفصائل المسلحة الموالية لها في المنطقة".

إن أبسط ما يُوصف به الموقف الروسي إزاء تحديد الجهة التي نفّذت الهجمات على قواعدها هو التخبُّط، الذي أظهر موسكو مثل "دب جريح" تلقّى طعنات مؤلمة من طرف لا يزال مجهولاً بالنسبة له.

يُستبعد أن تقوم المعارضة المعتدلة -وفق أحد الاتهامات الروسية- بهجوم من هذا النوع في ظل عدة معطيات:

1- المعارضة المعتدلة منذ بداية الحرب لم تمتلك أسلحة من هذا النوع المتطوّر، وحرصت واشنطن على منع وصول "أسلحة متطورة أو فتاكة" للمعارضة المعتدلة منذ بداية الحرب السورية، بل ومنعت حلفاءها من تزويد المعارضة بهذه النوعيّات من الأسلحة التي لو امتلكتها لغيّرت معادلة الحرب منذ سنوات.

2-لو أن فصيلاً من فصائل المعارضة قام بهذا الهجوم، لَما منعه شيء من تبنّيه رسمياً، والافتخار بتنفيذه، فأحرار الشام مثلاً تبنّت أكثر من مرة قصف حميميم بصواريخ غراد، ونشرت تسجيلات مصورة للقصف. حصل ذلك في الأشهر الأولى من الوجود العسكري الروسي في سوريا، وقبل أن تقوم موسكو بتطوير القاعدة وتوسيعها وتحصينها.

3- لو كانت "المعارضة المعتدلة" تمتلك هذه التقنيات المتطورة لكان من الأولى استخدامها في الجبهات الساخنة ضد قوات النظام ومليشياته الطائفية التي تتقدم في ريفي حماة وإدلب.

توجيه موسكو رسالة إلى تركيا بضرورة مراقبة منطقة خفض التصعيد في إدلب ليس إلا تشتيتاً للاتهامات الأولى، وتثبيت موقف لدى أنقرة التي انتقدت طهران وموسكو على خلفية هجوم الأسد على ريف إدلب بتغطية جوية روسية.

روسيا اتهمت كذلك تنظيم الدولة بتنفيذ الهجمات بمساعدة مدرّبين أميركيين، على لسان خبراء نقلت تصريحاتهم الوكالات الروسية، وهذا أيضاً مُستبعد تماماً؛ فالروس قالوا إن المسافة التي قطعتها طائرات الدرون التي هاجمت القاعدتين، تتراوح بين 50 و 100 كليومتر، وكما هو معروف فلا وجود للتنظيم في مناطق بهذه المسافة.

الواقع أن الطائرات المسيرة التي استخدمها التنظيم في معارك الموصل والرقة لا تتجاوز في تأثيرها مسافة 2 كيلومتر، كما إن تأثيرها منخفض جداً وفق ما رأينا في عشرات التسجيلات التي بثها التنظيم، والتي تُظهر القدرة المحدودة على إلحاق الضرر بالخصم، وفي مساحة لا تتعدى الأمتار، فهل لتلك الطائرات قدرة على تدمير طائرات ومهاجمة قواعد عسكرية مزدوّة بأحدث التجهيزات وتقنيات الحماية؟

أما الآراء التي ذكرت أن وراء الهجوم مليشيات مرتبطة بإيران أو مليشيات موالية للنظام فهي أضعف بمكان من الرد عليها أو تفنيدها. ناقشنا فقط ما تحدثت عنه موسكو بشكل رسمي أو عبر خبراء ومحللين.

الحقيقة أن روسيا هي القوة العظمى الثانية في العالم، وأنها استطاعت خلال أكثر من عامين تأهيل قاعدة حميميم كمركز قوة لها في كامل الشرق الأوسط، وأكدت أنها من خلال حميميم وطرطوس أسّست لوجود دائم في سوريا ..يبدو أن قوة عظمى كذلك لم يَرُق لها هذا الأمر، فقررت اختراق دفاعات الدب الروسي وإيلامه في عقر داره بسوريا.

طالما صرح المسؤولون الأميركيون أن الأسد وحلفاءه غير قادرين على الحفاظ على مكتسباتهم الأخيرة، كما إن واشنطن أول من رد على بوتين حين زار قاعدة حميميم في 11-12-2017  إذ قالت حينها إن "إعلان النصر" سابق لأوانه، في رسالة واضحة لموسكو مفادها: لم ينتهِ كل شيء بعد.

انطلاقاً من ذلك نستطيع أن نقول بارتياح إن الولايات المتحدة هي من قامت بمهاجمة القاعدتين الروسيتين، وهي الوحيدة القادرة على فعل ذلك. بدا الاتهام واضحاً في تصريحات بعض المسؤولين الروس وفي بيان وزارة الدفاع الروسية كذلك، فيما يتعلق بالتقنيات المتطورة المستخدمة في الهجوم، ووجود طائرة أميركية حلقت فوق القاعدة مدة أربع ساعات خلاله، والتصريح الروسي أن الطائرات المسيرة كانت مرتبطة بأقمار صناعية توجّهها.

كما أكد الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن بلاده تتوقع هجمات مماثلة في المستقبل، وهذا لا يترك مجالاً للشك أن موسكو تدرك جيداً من هاجمها، فلو كانت فعلياً تتهم المعارضة المعتدلة أو تنظيم الدولة لأعطت تعهداً للشعب الروسي على الأقل بأن الحادثة لن تتكرر، ولقامت باتخاذ إجراءات سياسية وعسكرية تنتقم فيها لأكبر خسارة تتعرض لها منذ تدخلها في سوريا.

القضية ببساطة أن الدور الأميركي في سوريا لم يبدأ بعد على عكس ما يتوهم كثيرون قالوا إن واشنطن سلمت موسكو سوريا على طبق من ذهب، هي ربما تركت لها الساحة السورية خالية إلى وقت محدد، لكن الولايات المتحدة تعرف جيداً أن من يمسك بزمام الأمر في سوريا يستطيع التحكم بجميع أوراق الشرق الأوسط، وإذا كانت قد عجزت أو تعاجزت عن فعل ذلك فهي بالتأكيد لن تسمح لأحد بالوصول إليه أو تحقيقه. أزعم أن واشنطن بعد القضاء على تنظيم الدولة شرق سوريا وتمكين حلفائها الأكراد من إمساك المناطق التي سيطروا عليها جيداً ستعيد ترتيب اللعبة من جديد، ولعل أول خيوط اللعبة الجديدة إفهام روسيا أنها ليست وحيدة في سوريا، وأنها ليست قادرة على التحكم بكل شيء.. الهجوم لم تُرِد منه واشنطن باعتقادي سوى إيصال رسالة رمزية لروسيا في المكان الذي أعلن منه بوتين النصر وقام بإذلال بشار الأسد وإظهاره كموظف صغير يستدعى إلى حميميم ويوقفه ضابط روسي عن اللحاق ببوتين إلى منصة التحية.

يبقى السؤال المهم : لماذا تراجعت روسيا عن توجيه اتهام مباشر للولايات المتحدة؟

الواقع أن إصرار روسيا على توجيه التهمة ضد الولايات المتحدة وتثبيتها عليها يجعلها مطالبة بالردّ في أروقة السياسة وفي الميدان كذلك، إذ لا يمكن لموسكو إقناع الجميع بأن الولايات المتحدة كبدتها أكبر خسارة لها في سوريا، دون توجيه أيّ نوع من الرد، وفي ظل العجز الروسي عن الردّ عموماً ، وفي هذه المرحلة خصوصاً، اختارت موسكو تشتيت الاتهامات وإلصاق تهمة الهجوم بالمعارضة الموجودة في إدلب، وهي بذلك تحقق هدفين بضربة واحدة:

-أولاً تبعد شبح مواجهة محتملة مع واشنطن إذا هي أصرت على اتهامها.

- ثانياً تعطي مبرراً للهجوم الذي تشنّه مع قوات الأسد ومليشياته على منطقة خفض التصعيد بإدلب، الذي كانت هي أحد رُعاته وضامنيه.

على أية حال يتوقع أن يشهد العام 2018 مزيداً من التماسّات بين واشنطن وموسكو في سوريا، فتنظيم الدولة العدو المشترك لم يعد له وجود فعلي، وسينتقل الجانبان إلى مرحلة تقاسم الكعكة وتوزيع المصالح ومناطق النفوذ، المتوقّع كذلك أن العام الجاري سيشهد نشاطاً أميركياً متعاظماً في الميدان والسياسة، على نحو يُثبت فعلياً أن الدور الأميركي في سوريا لم يبدأ بعد.