الأثنين 2018/06/18

التلاعب بالمصطلحات.. هكذا يمكن للصحافة تحويل الضحية إلى جلاد

لم يؤد مقتل الفلسطينيين غير المسلحين في الآونة الأخيرة إلى إطلاق الاعتراضات العالمية فحسب، بل إلى التعليق على اللغة التي يستخدمها الصحفيون للكتابة عن هذه الأحداث كذلك. يقول مصطفى بيومي الكاتب وأستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة سيتي بنيويورك: إن المصير العجيب للمضطهدين في كل مكان أنه عندما يقتلون، فإنهم يقتلون مرتين: أولا بالرصاص أو القنابل، ثم بالصيغة المستخدمة لوصف ميتهم.

يلفت بيومي الانتباه إلى أحد أهم أدوار الصحافة الحديثة، التي تحمل العديد من أوجه الاعتراضات، وهو كيفية وصف العنف السياسي في كلمات. والخبر السيئ للصحفيين هو أنه لا توجد طريقة محايدة لفعل ذلك. فإذا كانت كلماتك محايدة، فمن المحتمل أنك ببساطة تتجنب تحميل أي شخص أو جهة المسؤولية عن عمليات القتل، أو أنك قد حددت المسؤولية بشكل غير مباشر وضمني. وهناك طرق عديدة يفعل بها الصحفيون ذلك.

الأسلوب اللغوي وقواعد اللغة

إن إحدى القواعد النحوية المعروفة هي قاعدة المبني للمجهول؛ ففي حين أنه معروف جيدا، فإنه يساء فهمه إلى حد كبير. على سبيل المثال، انتقد بيومي تغريدة نيويورك تايمز التي أعلنت قتل المحتجين الفلسطينيين بالطريقة التالية: "توفي العشرات من الفلسطينيين في احتجاجات في الوقت الذي تستعد فيه الولايات المتحدة لفتح سفارتها في القدس"

وكحال العديد من المعلقين على تويتر، استشاط بيومي غضبا على مثل هذه التقارير، قائلا إن هذه الكلمات واختيارها المحدد لم يظهر مرتكبي العنف والجناة. كما أن الصورة المرفقة، التي تُظهر الفلسطينيين وليس الجنود الإسرائيليين، تعكس هذا الخيار. وقال إن هذه الصيغة مبنية للمجهول، لكن في تعليقه بعض الخطأ، فالمبني للمجهول سيكون بالشكل التالي "قُتل عشرات الفلسطينيين في احتجاجات بينما تستعد الولايات المتحدة لفتح سفارتها في القدس"

حيث يختلف اختيار المفردة والطريقة في تفسير المعنى بشكل كبير تماما، يضع المبني للمجهول المفعول به في أول الجملة بعد الفعل. وبشكل أكثر تحديدا، يُستخدم لإعطاء أهمية أكبر للأشخاص أو الأشياء التي تتأثر بحدث ما. ونظرا لأنه يضع الأهمية للمفعول به فيكون للكاتب الحق في ذكر أو إغفال الفاعل. في المثال أعلاه "قتل الفلسطينيون" لكن من الذي قتلهم أو لماذا؟ ترك ذلك ولم يذكر.

 

وقد يضع الصحفيون الفاعل في الجملة ولكن معظمهم يتركه بلا ذكر، وهو أمر حث عليه نشطاء ومستخدمو تويتر في ردهم على تغريدة نيويورك تايمز؛ حيث قدموا أمثلة يذكر فيها "الجنود الإسرائيليون" و"القوات الإسرائيلية" على أنهم الجناة.

1- ""قتل العشرات من الفلسطينيين بالرصاص على أيدي الجنود الإسرائيليين أثناء احتجاجهم على افتتاح السفارة الأميركية في القدس"... هاك، أصلحتها لك. قم بوظيفتك اللعينة واكتب عن الحقيقة".

2- "لقد تم قتلهم بوحشية من قبل القوات الإسرائيلية بسبب مظاهرتهم السلمية. "NYT" هي شركة أخبار كاذبة".

المعلوم والمجهول وما بينهما

في الواقع، حدد عنوان مقالة النيويورك تايمز الجاني واختار المعلوم: "إسرائيل تقتل العشرات على حدود غزة بينما تفتتح السفارة الأميركية في القدس"، حيث كان الفاعل هنا مذكورا في أول الجملة وبوضوح قبل الفعل الذي ارتكبه. وتشترك الأساليب المعلومة والمجهولة في كونها تفسر الفعل باعتباره يتضمن مشاركين، أحدهما ينفذ الفعل والآخر يتأثر به، وهذه الأفعال المستخدمة هنا هي أفعال "متعدية". أما ما يفعله معظم الصحفيين لتجنب تحميل المسؤولية هو استخدام أفعال لازمة لا تملك مفعولا به.

إن تغريدة "نيويورك تايمز" -"توفي الفلسطينيون..."- فسرت قتل الفلسطينيين من قبل الجنود الإسرائيليين باستخدام "شيء ما بين الاثنين" وذلك بالفعل اللازم غير المتعدي. وبتفسير العنف بهذه الطريقة، عرضت صحيفة نيويورك تايمز على قرائها مشاركا واحدا فقط: الفلسطينيون الذين ماتوا دون الرجوع إلى أي سبب.

إلقاء المسؤولية على شيء غير بشري

وهناك طريقة أخرى يتجنب بها الصحفيون إظهار الجناة مرئيين، وهي إسناد المسؤولية إلى كيان غير إنساني. فعلى سبيل المثال، وصفت شبكة "سي بي إس" مؤخرا المزيد من قتل الفلسطينيين على أيدي الجنود الإسرائيليين بالعنوان التالي:

نيران إسرائيلية تقتل أربعة فلسطينيين في تظاهرة حدودية جديدة

بدلا من إلقاء المسؤولية على أفراد، وضع الصحفي الكاتب هنا المسؤولية على "النيران الإسرائيلية". وبذلك تحول فعل "إطلاق النار" إلى اسم ووضع في موضع الفاعل، وبذلك يتجنبون أي اتهام بالانحياز.

دعونا نلاحظ أيضا كيف اقترن العنوان الذي قدمته "سي بي إس" بصورة تُظهر فلسطينيا باعتباره مسبب العنف، وهي رسالة ذات معنى بلا شك.

 

فيما يلي شكل شائع لهذا الأسلوب، من أخبار الخليج:

مقتل 16 فلسطينيا في اشتباكات قرب حدود إسرائيل

يستخدم العنوان المصدر ولا يذكر الفاعل. وبدلا من ذلك، يتم تفسير الوفيات باعتبارها نتيجة "للاشتباكات". ولا يتجنب ذكر فاعل بشري فحسب، بل يفسر العنف باعتباره بين طرفين متساويين، متورطين في عمل ثنائي الاتجاه. وبالنظر إلى حقيقة أن 16 فلسطينيا قد قتلوا ولم يقتل إسرائيلي واحد فإن فكرة الصحفي الذي كتب هذا العنوان أن هذا القتال يقف على قدم المساواة فكرة مطاطة نوعا ما.

الجمل الرئيسية والجمل التابعة

هناك طريقة أخرى لتجنب تحديد الجاني، وهي بتوزيع المعلومات على عبارتين منفصلتين. على سبيل المثال، ذكرت "يو إس إيه توداي" (USA Today):

أطلقت القوات الإسرائيلية النار على المتظاهرين الفلسطينيين، مخلفة 14 شخصا ميتا على الأقل بالقرب من حدود غزة.

باستخدام هاتين الجملتين وبينهما فاصلة، فصل هؤلاء الصحفيون تصرفات القوات الإسرائيلية من عواقبها. ووضع إطلاق النار في جملة، وتأثيره في جملة أخرى تابعة ولكنها منفصلة. وإذا دققنا نجد أنه تم وضع معلومة موت الفلسطينيين في الجملة الثانية لا الأولى، وهذا يعني أن الأعمال التي تقوم بها القوات الإسرائيلية تحتل مكانة بارزة (من خلال احتلال العبارة الرئيسية في هذا البناء)، في حين أن موت الفلسطينيين، الذي يمثل النتيجة المباشرة والمتوقعة لهذه الأعمال، يفسر على أنه ثانوي كما لو كان نتيجة ثانوية مؤسفة لهذه الأفعال.

وتتضح العلاقة السببية بين ما فعلته القوات الإسرائيلية والنتيجة من خلال اختيار قول "مخلفا 14 شخصا ميتا"، فهنا لا يلقي باللوم على القوات الإسرائيلية، بل يصف الضحايا، وهي شعرة فاصلة ولكنها فارقة. هذه الأمثلة القليلة هي غيض من فيض.

لماذا لا يتم تعليم الصحفيين قواعد اللغة؟

على الرغم من أهمية فهم الآلية الضمنية للغة، فإن القليل من طلاب الصحافة والاتصالات يدرسون الأنماط المعقدة التي يجب أن يختاروا من خلالها كتابة قصة إخبارية. ويقصد بعضهم استخدامها وفقا لسياسة تحرير الجهة التي يعمل بها، غير أن معظم الصحفيين لا يعرفونها بالفعل ولا يستطيعون الابتعاد عن آثارها على المعاني التي يصبغونها للأحداث المهمة. من الأفضل لهم إذن تعلمها بدلا من الوقوع تحت رحمتها.