الأحد 2018/09/09

إدلب.. سوريا الصغرى

عوّل كثيرون على مُخرجاتٍ يمكن أن تخرج بها "قمة طهران" يوم الجمعة الماضي بخصوص مصير منطقة إدلب، في الوقت الذي يسعى فيه الأسد بدعم حليفيه الروسي والإيراني إلى السيطرة على المحافظة التي خرجت كاملة عن قبضة النظام في العام 2015، والتي دخلت كمنطقة رابعة لما يسمى "خفض تصعيد" في أيلول 2017.

يمكن القول إن إدلب باتت تمثل "سوريا صغرى" بالنسبة لجميع الأطراف الفاعلة، وباتت القدرة على توجيه دفّة الأحداث في إدلب شبيهة تماماً بوضع سوريا ككل بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط. بات الحديث عن "حل سياسي" وآخر عسكري في إدلب نسخة طبق الأصل عن استخدام الحلّين في الرقعة السورية جمعاء.

يطول سرد الأسباب التي أعطت المحافظة الواقعة شمال غرب سوريا هذه الأهمية في هذا التوقيت، فجميع الأطراف تدرك كما ذكرنا أهمية التحكم بملف إدلب. ولهذا كثر كمّ التصريحات الإقليمية والدولية حولها.

قراءة المشهد حول "مصير إدلب" ربما لا تختلف عما رافق بقية المناطق السورية من أحداث، فالميدان يرتبط قبل الحديث عن القدرة العسكرية، باتفاقات وتفاهمات لا ترصدها عادة القنوات الإخبارية وعدسات المصورين، ولا يصرح بها عادة السياسيون.

علاقة "مصير إدلب" بـ"شرق سوريا":

منذ تدخلها في سوريا قبل نحو ثلاثة أعوام من اليوم، تعاملت روسيا مع ملفات المناطق السورية بمنطق "المربّعات المنفصلة"، ونجحت موسكو حقيقةً في التفرغ لكل منطقة على حدة دون أن تُضطر إلى فتح جبهات متعددة، مدعومة باتفاقات "خفض التصعيد" التي ساهمت بالتهام المناطق المحررة واحدة تلو الأخرى. عقب سيطرة الأسد على كامل الجنوب السوري "بلا معارك"، كان أمامه وأمام حليفه الروسي منطقتان خارج السيطرة: الأولى شرق وشمال شرق سوريا، والثانية إدلب.

صرح بشار الأسد أن نظامه عازم على السيطرة على كلتا المنطقتين، وهدّد مليشيات "ب ي د" بعمل عسكري في حال عدم التوصل إلى تفاهم. وهنا قامت المليشيات الكردية بالتجاوب مع فكرة التفاوض، لكن ليس كطرف منهزم، بل كفصيل يمسك مساحات واسعة في ثلاث محافظات حيوية، ويريد امتيازات تلبي طموحاته.

بدأت المفاوضات فعلياً بين الجانبين بزيارة وفد ممّا يسمى "مجلس سوريا الديمقراطية" إلى دمشق تكررت مرتين.

الولايات المتحدة مطلعة على المفاوضات وتوجّهها من بعيد، كان النظام يريد عودة مؤسساته إلى محافظات الحسكة والرقة ومناطق بدير الزور، وإعادة سيطرته على الحدود، دون تقديم تنازلات فيما يخص مسألة "الحكم الذاتي" للأكراد، وهو ما يلبي مطالب تركيا التي تصنف مليشيات "ب ي د" على قائمة الإرهاب.

المفاوضات سارت على هذا الأساس، ويبدو أن أنقرة شجّعت نجاح هذا السيناريو الذي يضمن أمنها القومي، وكان المطلوب منها مقابل ذلك أن تغضّ الطرف عن عملية عسكرية واسعة في إدلب. الولايات المتحدة كذلك أرادت هذا السيناريو الذي يمنع عودة كاملة للأسد إلى مناطق شمال شرق سوريا، ويضمن مصالح حلفائها بالمنطقة.

عملية التفاوض حول شمال شرق سوريا شملت إدلب كذلك، فمقابل أن يوافق النظام على المطالب الكردية، سيحصل على تسهيلات سياسية فيما يخص ورقة إدلب من ناحية واشنطن وأنقرة. وفي هذا السياق ذكرت مواقع إخبارية أن المقاتلين الأجانب الموجودين في إدلب سيؤمّن لهم طريق آمن للعبور إلى مناطق "قسد".

لم تَسِر المفاوضات وفق ما يريد الأسد وروسيا، وأصرّ الأكراد ومن ورائهم الولايات المتحدة على نوع من الإدارة لمناطقهم يشبه الحكم الذاتي، وأسدل الستار على جولتين فاشلتين من المفاوضات.

روسيا غير جاهزة بالتأكيد لتطبيق تهديدات الأسد الفارغة بمحاربة مليشيات "ب ي د"، فالولايات المتحدة لا تزال على الأرض ولا تنوي مغادرة المنطقة وفق الاستراتيجية الجديدة لإدارة ترامب، وبالتالي كان لا بد من توجيه الدفة نحو إدلب.

فشل المفاوضات وتعقيد مشهد إدلب:

بعد فشل المفاوضات بين نظام الأسد ومليشيات "ب ي د" لم يعد طريق الأسد إلى إدلب مدعوماً بمواقف سياسية إقليمياً ودولياً.

تركيا التي كانت تأمل بخروج "ب ي د" من الحدود معها، شعرت بأن فقدان وجودها في إدلب سيؤثر في أمنها بشكل مباشر، وهذا ما يفسّر تمسكها بسيناريو الحل السياسي في المحافظة، ولا سيما أنها ستتحمّل الفاتورة الأكثر كلفة، والتي تتمثل بموجات بشرية هائلة من الهاربين من القصف والمعارك.

ترامب من جهته أبدى اهتماماً مفاجئاً بإدلب، وحذّر الأسد من "هجوم متهور". ربما سوّغت إدارته ذلك بمخاوف إنسانية على مصير أكثر من 3 ملايين مدني بالمنطقة، لكن الواقع أن هذا الاهتمام جاء عقب فشل التفاوض حول مصير شمال شرق سوريا.

ربما أرادت الولايات المتحدة من تجربة المفاوضات بين "ب ي د" والأسد جَسَّ النبض لا غير، وما أسفرت عنه المباحثات أن الأسد يريد عودة سوريا إلى مشهد ما قبل 2011، وهو ما لا يحقق أي تقدم في ملف الانتقال السياسي المطلوب. لقد شكّل فشل المفاوضات حول شمال شرق سوريا قناعة إضافية لدى واشنطن بأن نظام الأسد غير قابل لتغيير سياسته وتقديم تنازلات، وهو ما دفع إدارة ترامب إلى تبني استراتيجية جديدة، لعل العزم على البقاء في سوريا ليس وحيداً في بنودها، وقد يكون منع روسيا والأسد من تحقيق غايتهما في إدلب، موجوداً على رأس الأجندة في الوقت الحالي.