الثلاثاء 2016/09/06

الجزء الثاني (الأكراد في حكم البعث وحافظ الأسد .. صراع الهوية والوجود)

إذا كان حافظ الأسد بحسَبِ الجزء الأول من المقالة ، استخدم عبد الله أوجلان كبيدقٍ لتنفيذ أجنداته وأجندات حلفائه ، فهذا لا يعني أن الأكراد في سوريا نالوا نصيبهم من هذه الخدمة ، فقد ذكرْنا أن الأسد قدَّم الدعمَ اللوجستي لأوجلان ، مقابل أن يضمَنَ الأخيرُ تحقيقَ إذعان الأكراد في سوريا لقمع الأسد وأجهزته الأمنية.

لا يختلف اثنان على أن كلَّ شرائح السوريين نالت كِفلاً ونصيباً من قمع نظام الأسد ، إلا أن للأكراد في سوريا قصةً ثانيةً مع هذا القمع، إذ اتبع حافظ الأسد ونظامه البعثي في حقهم شتى أنواع الإقصاء والتهميش والقمع ، في الوقت الذي كان فيه يدعم فئات أخرى منهم لغايات انتقامية.

مقدمة حول أكراد سوريا :

يقطن الأكراد بشكل أساسي في مناطق الشمال السوري شرقاً وغرباً من الجزيرة إلى عفرين ، متقاسِمين العيشَ مع أبناء المنطقة العربِ ، إضافة إلى وجودِ المكوِّنِ التركماني.

و نجد لهم كذلك بعض الأحياء في مدينة حلب (حي الشيخ مقصود) ، ومدينة دمشق (حي الأكراد- حي ركن الدين)، وفي محافظات حماه وحمص والرقة واللاذقية ومنطقة حوران.

ولا توجد إحصاءات دقيقة حول عددهم في سوريا ، ويتفاوت الرقْمُ بين المصادر الكردية وغيرها، فبينما تقول الأحزاب الكردية إنهم يشكِّلون نحوَ 15% من سكان سورية ( أي نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة) ، تشير تقديرات أخرى إلى أن العدد بين مليون ومليون ونصف. ونستطيع أن نقول إن النسبة الأقربَ للواقع هي نسبة 10 %.

ومن الناحية الدينية .. فإن غالبية أكراد سورية "مسلمون سنة "، مع وجود فئة صغيرة من ينتمون للطائفة اليزيدية أو للطائفة العلوية.

1- الأكراد خلال حكم البعث ( قبل انقلاب حافظ الأسد ) :

في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، اجتاح مفهوم القومية العربية معظم البلدان العربية، التي أعجبت بنموذج "جمال عبد الناصر" في مصر، وأدى هذا النزوع إلى شكل من أشكال التضييق على القوميات الأخرى.

الحزب الديمقراطي الكردي السوري الذي تشكل قبل أشهر من الوحدة بين سوريا ومصر ، دعا بشكل واضح إلى الاعتراف بالقومية الكردية ، وحقوقها الثقافية ،وعارضَ الوحدةَ العربيةَ في العام 1960، ما أدى إلى ملاحقته من قبل حكومة الوحدة ، وسُجِنَ العديد من أنصاره.

لم تلبث الوحدة أن فكَّت عُراها سريعاً ، وفي عام 1961 ، أُطلق على سورية لأول مرة اسم (الجمهورية العربية السورية)، ما أنذر بالإقصاء الاثني للأكراد وغيرهم. وفي شهر آذار 1963 ، استولى حزب البعث على السلطة المُطلَقة في سوريا.

القوميون العرب لم يفسحوا المجال أمام ظهور الهُوية الكردية ، ولهذا السبب انخرطت غالبية النخب الثقافية الكردية في أيديولوجيات النضال الطبقي (الأحزاب الشيوعية واليسارية) ، [ قائد الحزب الشيوعي السوري سياسي كردي (خالد بكداش) ].


كان البعث السوري ينظر بعين الريبة إلى المكونات السكانية غير العربية في شمال شرق سورية ، ولا سيما في محافظة الحسكة، التي نظر البعث إلى أكرادها على أنهم متسللون من الدول المجاورة وبشكل خاص من تركيا، مستفيدين - كما يقال – من قانون الإصلاح الزراعي ، الذي يمنحهم الحصول على الملكية.

المرسوم ( 93 ) للعام 1962 ( إحصاء الحسكة ) :

صدر في سوريا المرسوم الجمهوري التشريعي رقم (93) في 23 آب 1962 ، وذلك في عهد رئيس الجمهورية ناظم القدسي ورئيس مجلس الوزراء بشير العظمة ، ويتضمن المرسوم إجراء إحصاء استثنائي للسكان الأكراد في منطقة الجزيرة السورية شمال شرق البلاد ، لتحديد أعداد الأكراد الأجانب القادمين من تركيا وشمال العراق ، وتصحيح السجلات المدنية.

وتم الإحصاء بالحسكة في يوم واحد ( 5 تشرين الأول 1962 ) ، وبحسب نتائجه قسم الأكراد في سوريا إلى:

1- أكراد متمتعين بالجنسية السورية. 

2- أكراد مجردين من الجنسية ، ومسجلين في القيود الرسمية على أنهم أجانب. 

3- أكراد مجّردين من الجنسية ، غير مقيدين في سجلات الأحوال المدنية الرسمية، وأطلق عليهم وصف "مكتوم القيد". 

2- الأكراد بعد انقلاب حافظ الأسد :

نتيجة للإحصاء السابق بقي نحو 300 ألف كردي في سوريا محرومين من الجنسية السورية، ولم يغير وصول حافظ الأسد إلى الحكم عبر انقلاب عام 1970 ، شيئاً من واقعهم، بل بقي العدد الذي حرم من الجنسية يعاني مما يأتي :

-الحرمان من حق تثبيت وقائع الزواج والولادات في سجلات الدولة.

-الحرمان من حق حيازة جواز السفر، وبالتالي عدم تمكنهم من الانتقال إلى خارج البلاد.

-تأخر دخول الأطفال في المدارس الابتدائية حيث لا تعطى لهم شهادات التعريف إلا بعد التحقيق من قبل الأمن السياسي.

-الحرمان من حق العمل لدى دوائر ومؤسسات الدولة ، بالإضافة إلى حرمانهم من حق الاستفادة من القروض التي تمنحها البنوك ، وعدم التمتع بالحقوق المدنية المنصوص عليها في الدستور ، ومنها حق الترشيح والتصويت.

إجراءات حافظ الأسد بحق أكراد سوريا :

بعد ثلاث سنوات من وصوله إلى سدة الحكم ، ضمن فيها الاعترافَ الخارجيَّ بانقلابه العسكري ، قام حافظ الأسد بتنفيذ خطة ما يسمى "الهلال العربي" لإقامة حزام أمني عربي بطول 375 كيلومتراً في الجزيرة السورية على طول الحدود التركية.

وكلَّفَ حافظ الأسد القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم بالمتابعة المباشرة للخطة ، وأسند إلى مساعده "عبد الله الأحمر"، وعضو القيادة "محمد جابر بجبوج" مسؤولية تطبيقها.

وتم وفق القرار تهجير نحو 140 ألف مزارع كردي بعائلاتهم من القرى التي كانوا يعيشون فيها ، والعمل على إحلال مزارعين من بدو الفرات الذين نزحوا بعد إنشاء "سد الفرات"، محلَّ الكرد الذين تم تهجيرهم، في الوقت نفسه تبنى نظام الأسد حملةَ تعريب واسعةَ النطاق لأسماء القرى والمدن التي كان الأكراد يعيشون فيها.

تناقضات :
حرص حافظ الأسد على محاربة الحركة القومية الكردية السورية، وإلغاء الهوية الكردية، ومَنَعَ تجنيس عشرات آلاف الأكراد، وألقى بقياداتهم وكوادرهم في السجن؛ وفي الوقت نفسه كان يمنح تسهيلات ومساعدات كبيرة لنوعين من الأحزاب الكردية :

1) الأحزاب الكردية العراقية العَلمانية والإسلامية : وذلك لكونها ضد نظام صدام حسين [ المناهض لحافظ الأسد ]، حيث سمح لتلك الأحزاب بالتدريب في معسكرات الجيش السوري، وسهَّل لهم مرور السلاح ، ومنح بعض قياداتهم حق الإقامة في دمشق والقامشلي.

2) حزب العمال الكردستاني : الذي تحدَّثنا عن علاقتِه بحافظ الأسد في الجزءِ الأول ، حيث احتضن الأسد زعيمه عبد الله أوجلان منذ عام 1980، وقدم له كل الإمكانيات التي تدخل جارته اللدود ( تركيا ) في حرب عصابات استنزافية.

وفي الوقت الذي كان حافظ الأسد يقمع أي شعور كردي في سوريا ، كان يغضُّ الطرْفَ بل ويسهِّل التحاق الأكراد السوريين بصفوف حزب العمال ومعسكراته.

وهكذا استطاع حافظ الأسد أن يستخدمَ العنصر البشري من أكراد سوريا كأوراق ضغط على نظامين يجاوران سوريا ، يناصِبُهما العداء ، كما نجح في تحويل "المشكلة الكردية" من قضية داخلية تسبب له الإرباك ، إلى قضية يعالجها خارج حدود بلاده.

ومن الناحية السياسية .. سمح حافظ الأسد بدخول ستة أكراد إلى البرلمان السوري في عام 1990، وهم ينتمون إلى الحزب الشيوعي السوري المدرج في ما يسمى "الجبهة الوطنية" ، التي قام حزب البعث بتشكيلها مع بعض الأحزاب الموالية له ، تجميلاً خارجياً لواقع القمع المفروض في سوريا ، وفي وقت سابق زاد عدد الاكراد في مجلس الشعب إلى 38 عضواً، تحت دعاية "التعددية السياسية".

ومن نافلة القول أن الأكراد في عهد حافظ الأسد لا يصلون قطُّ إلى مناصب عليا في الدولة ، ولا وجود لهم في مؤسسة الجيش إلا كأفراد وعناصر يمضون خدمتهم العسكرية دون الحصول على أي رتبة أو منصب.

ولم يسمح نظام الأسد لأكراد سورية بإنشاء جمعيات أو نقابات كردية ، ومنعهم من إنشاء مدارس كردية، على غرار المدارس المسيحية للأرمن والسريان والكلدان، بل إن الأمر وصل إلى تجريم الحديث باللغة الكردية في مؤسسات الدولة والجيش.

وفي المجال الخِدْمي ..بقيت مناطق الشرق السوري بما فيها الحسكة ، عرباً وأكرداً ، مهمَّشةً ، محرومةً من أيِّ اهتمامٍ اقتصاديٍّ ، بل إن حافظ الأسد كان يختار لتلك المدن محافظين ومسؤولين ذوي باع مشهور طويل في الفساد الإداري والاقتصادي ، وحُرِمَت تلك المناطقُ بشكل مقصودٍ من كافة مشاريع التنمية البشرية والتعليمية.
يتبع ........