السبت 2021/08/14

القضاء المصري يُحاكِم حرية الرأي والمُعتقَد

 

قبل أيام استدعى القضاء المصري الشيخ "محمد حسان" للشهادة في قضية "داعش إمبابة" وقبل ذلك استدعى شيخاً آخر "محمد حسين يعقوب" للشهادة في ذات القضية، وأثيرت ضجة إعلامية مصرية كبيرة حول الشهادة، وما أُدلي بها من أفكار وأسئلة عن المعتقدات، وتبدلها أو ثباتها أو خطئها.

 

ما أريد التوقف عنده ليس الدفاع أو الهجوم على الشاهدين اللذين لا أعرفهما أو أعرف سيرتهما إلا بمقدار نزر يسير، لكن أريد أن أقف على أثر القضية على حرية المعتقد ودور السلطة القضائية في حماية الحريات العامة ومنها حرية الرأي والمعتقد.

 

الأساس القانوني لحرية الرأي والمعتقد

 

لقد عمدت الوثائق الدولية على النص على حرية الرأي والمعتقد بشكل متلازم، فأوردتها في نص واحد، حتى لا يحدث تصادم ولا تفاضل بينهم، وذلك منذ إعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 عندما نص في المادة 18 منه على ذلك.

 

ليتابع على ذات المنوال العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة 18 منه، ولأن مصر منضمة لذاك العهد، فقد أكدت التزامها بحرية الرأي والمعتقد في دستورها لعام 2014 الذي نص في المادة 64 بأن (حرية الاعتقاد مطلقة) وحصن حرية الرأي في المادة 65 بقوله (حرية الرأي مكفولة) والحقيقة أن النص المصري جاء من حيث الصياغة أكثر حماية لحرية المعتقد من الاتفاقيات الدولية التي لم تنص على أنها حريات مطلقة ولكنها مكفولة.

 

حرية المعتقد في القضاء الأوروبي

 

أكدت المحكمة الأوروبية، أن حرية الفكر والضمير والدين هي إحدى أسس "المجتمع الديمقراطي" بالمعنى المقصود في الاتفاقية. وأن البعد الديني، هو أحد العناصر الأكثر حيوية التي تشكل هوية المؤمنين ومفهومهم للحياة، وهو أيضًا رصيد ثمين للملحدين والمتشككين وغير المهتمين.

 

وإن التعددية التي لا يمكن فصلها عن المجتمع الديمقراطي، والتي تم دفع ثمنها غالياً على مر القرون، وتأتي الحرية الدينية في المقام الأول لأنها مسألة فكر وضمير فردي.

 

وأوضحت المحكمة الدستورية الفيدرالية الألمانية أن قرار اعتناق أو عدم اعتناق دين يرجع إلى الفرد وليس إلى الدولة، ولا يحق للدولة أن توصي بملة أو دين أو تمنعها، ولا يندرج الحق في حرية المعتقد فقط في اعتناق دين، بل يندرج أيضاً في الحياة والتصرف وفقاً للمعتقدات الدينية الخاصة.

 

وقد حددت المحكمة الدستورية الإسبانية لـ"حرية المعتقد" وجهين:

 

خارجي: يفرض على المواطن أن يتصرف بحرية معتقده بما لا يتعارض مع معتقدات الآخرين والمواطنين.

 

ووجه داخلي: يؤمن له ضمان دائرة خاصة به وبمعتقداته، ولا يجوز لأي سلطة عامة أن تنتهك هذه الدائرة الخاصة أو تلزم المواطن بأعمال تخالف معتقداته.

 

إن الإطلاق في حرية المعتقد قد جاء في حالة الاعتناق وهو ذاتي داخلي، في حين أن حريّة ممارسة الشعائر الدينيّة وهي إحدى الحريات القابلة للتحديد على عكس الحريّة الأم التي تنتجها وهي حريّة المعتقد.

 

وترد على ممارسة الشعائر الدينية الحدود الآتية:

 

- مراعاة قيم الاعتدال والتسامح.

 

- احترام المقدسات وعدم النيل منها.

 

- عدم الدعوة إلى التكفير أو التحريض على الكراهيّة والعنف.

 

على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، كان عدد القضايا المتعلقة بحرية المعتقد التي نظرت فيها المحكمة الأوروبية يتزايد باستمرار، ويمكن تفسير هذا الاتجاه بالأهمية المتزايدة للدين والمسائل ذات الصلة في الخطاب الاجتماعي السياسي.

 

يلاحظ أن النزاعات القضائية لم تكن في مواجهة حرية المعتقد، ولكنها تركزت في ممارسة الشعائر الدينية وإظهارها، وهذا أمر طبيعي لأن الاعتقاد داخلي لا تطاله القاعدة القانونية المحصورة في السلوك الخارجي الذي يظهر من خلال الممارسة.

 

مبدأ "حياد الدولة" وحرية المعتقد

 

لا شك أن مبدأ حيادية الدولة الحديثة يعد من أهم مرتكزات الدولة الليبرالية المعاصرة، ويأتي حيادها حيال الديانات المختلفة جزءًا من حيادها العام، وقد بينت المحكمة الفيدرالية الألمانية مفهوم الحياد للدولة بقولها "إن مبدأ حياد الدولة تجاه مختلف الديانات والمعتقدات ضرورة، إذ لا يمكن لدول يعيش فيها أنصارٌ مختلفو المعتقدات الدينية والأيديولوجية وحتى المتعارضة فيما بينها، أن يتم ضمان التعايش السلمي إلا إذا حافظت الدولة نفسها على الحياد في مسائل الاعتقاد، ولا ينبغي للدولة بالتالي أن تعرض السلم الديني للخطر".

 

ومن واجبات "الحياد" أنه ليس للدولة أن تضع في الوثائق العامة اعتقاد الأفراد لأن لهم الحق في إبقائه سراً مثلما لهم الحق في إشهاره".

 

وكذلك يتوجب عليها منع إجبار الأشخاص على اعتناق معتقدات معينة، لذلك لا يمكن للدولة أن تتحيز لمعتقدات معينة -وذلك بالتعاطف معها على سبيل المثال- كما لا يمكن أن تلحق الضرر بأخرى، بسبب محتوى عقيدتها أو بممارسة التمييز ضدها.

 

القضاء المصري وحرية الفكر والمعتقد

 

كما بين القضاء الأوروبي أن حرية المرء في المعتقد حرية مطلقة، ونسبية الحرية تأتي في ممارسة الشعائر لأنها ربما تتعارض مع حقوق الآخرين.

 

لكن القضاء المصري في الاستماع لشهادة الشاهدين كانت أغلب الأسئلة تدخل في حرية المعتقد المطلقة أو حرية الفكر المكفولة، وهو لا يحق لأي جهة أن تقترب منهما بحكم الدستور، فلا يحق لها محاورة الشاهد فيما يعتقد، ولا يجوز لها التحيز لما يعتقد الأزهر.

 

لو فرضنا أحد الشاهدين تقدم لوظيفة عامة وأقدمت تلك الجهة العامة وسألته ذات الأسئلة التي وجهتها المحكمة، لكان من حقهما الادعاء على تلك الجهة بجرم انتهاك حرية المعتقد والتعدي على حرية الفكر.

 

لكن مَن اعتدى القضاء وبتوجيه من السلطة السياسية لخدمة أغراض أراها بسيطة في مقابل سقطة كبيرة للقضاء المصري وتحويله لأداة لخدمة السياسة أكثر مما هو بوابة لحراسة الحريات العامة.

 

ومن بديهيات القضاء عندما يستدعي شاهداً لمحكمة ليسأله عما شاهد أو سمع لا ليسأله عما يعتقد، حتى عندما يمثل المتهم أمام القاضي ليسأله عما فعل أو اشترك أو حرض لا ليسأله عما يعتقد أو يفكر.

 

إن المؤشر الأول على استقلال القضاء وحياده وفعاليته هو قدرته على حماية الحريات العامة وحراسته لها من تغوُّل باقي السلطات عليها.

 

لذلك كانت هذه القضية مؤشراً على نكوص كبير للقضاء المصري، والعودة إلى محاكم التفتيش، وهذا النكوص لا يعتقد أن أحداً يسلم منه، الديني أو اللاديني، لأن تكريس ثقافة حماية الحريات في مصلحة الجميع وثقافة الاعتداء ستشمل الجميع أيضاً.

 

وأخيراً

 

كان هناك اجتهاد قضائي قرأته في بداية تخصصي القانوني صادر عن محاكم مصر عن الاعتراف الأمني يقول: "يكفي ما يحيط دوائر الأمن من رهبة وخوف حتى يكون الاعتراف مشوباً بالبطلان" كنت ولا زلت أعتز بهذا الاجتهاد كما لو أني أنا من أصدرته، وخجلت من ممارسة القاضي وهو يتدخل في حرية المعتقد وينتهكها كما لو كنت أنا الفاعل.

 
 

 

اقرأ المزيد