الخميس 2017/08/24

هل يكسر الشعب السوري “الخط الدولي الأحمر” ؟

مركز الجسر للدراسات...

"الخط الأحمر لا وجود له، وعلى كل حال فإني لا أراه... في بدء عام 1976، حذرتني الولايات المتحدة، ونصحني الاتحاد السوفييتي ألا أجتاز الحدود اللبنانية في المصنع، فالخط الأحمر كان في المصنع، لأن إسرائيل كانت تعتبر دخول "الجيش السوري" لبنان سبباً كافياً لإعلان الحرب.. اجتزنا المصنع فحدثنا الأميركيون والإسرائيليون عن خط جديد في صوفر، ولما تجاوزنا صوفر، حدّدوا لنا بيروت على أنها الخط الأحمر الجديد، والآن، بعد انتشارنا في بيروت، راحوا يتكلمون عن النبطية وعن الليطاني كخط أحمر. فما هو هذا الخط الأحمر المبهم والمتحرك والمتنقل بشكل مستمر من مكان إلى آخر؟"... الكلام السابق أعلاه لحافظ الأسد، وهذه النظرية التي نقلها "حنّا بطاطو" في كتابه "فلّاحو سوريا" ورثها بشار الأسد كما ورث عرش سوريا.

كل الخطوط الحمر التي تحدث عنها زعماء العالم خلال الثورة السورية خضعت لهذه النظرية التي أثبتت صوابها بطريقة مذهلة إلى الآن، لم يكن النظام يرى الخطوط ولا يلقي لها بالاً، هو يعلم يقيناً أنها "وهمية"، ولا حقيقة لها، بغضّ النظر عن دوافع صدورها من قائليها، الأمر غير مهم هنا، المهم أن النظام تجاوزها، أو مسحها، أو انتهكها، ولم يحدث شيء من كل التهديد والوعيد الذي رافقها. الخط الأحمر الوحيد كان معروفاً مسبقاً، وبدقة شديدة لدى النظام، وهو تصرّف وفقه في كل السنوات الماضية خطوة خطوة.

يجب أن نعترف أولاً أن "المجتمع الدولي" برمّته تلاعب بالسوريين، وباع عليهم الوهم في قضيتين أساسيتين: الأولى أنه خدعهم بخطوط حمراء لم تكن حمراء يوماً ما، لا في أصلها، ولا في مآلاتها، والثانية أنه لم يصارحهم بالخط الأحمر الحقيقي والوحيد الذي يتبنّاه هذا "المجتمع الدولي"، والذي هو قانون من قوانين المنظومة الدولية لا يمكن لجميع الدول الخروج عنه.

صحيح أنه كان هناك إشارات وإيحاءات لكن المعارضة لم تفهمها، أو لم ترد أن تأخذ بها، فهي تأتي من دول عدوّة في نظرها كروسيا وإيران، والمعارضة تمنّي النفس بخلافها، فالخطوط الحمراء لا تزال تصدر عن الأصدقاء، ولعلّ وعسى..!!

ساقتنا الخطوط الحمراء إلى مجلس الأمن نطلب تطبيق الفصل السابع على النظام، ولم نحصل عليه، فالفيتو بالمرصاد،  ثم ذهبنا إلى الجمعية العامة فلديها "الاتحاد من أجل السلام"، لم نحصل عليه كذلك، فالأمر ليس خلافاً بين دولتين يهدد السلم والأمن الدوليين، الأمر لا يعدو أن يكون خلافاً داخلياً يقتل فيه سفّاح شعباً ليس له ذنب إلا أنه أراد حرية وكرامة.

من جنيف إلى جنيف، ومن ميونيخ إلى فيينا، ومن أستانا إلى أستانا، ومن قرار 2118، إلى قرار 2254 نفاوض على عملية انتقال سياسي لم ولن تأتي.

ومن مجلس وطني، إلى ائتلاف وطني، إلى هيئة مفاوضات "عليا"، إلى منصات، ووفود، ومبادرات، وجعجعة ولا طِحن.

إلى أن ظهر ابن صاحب النظرية السالفة الذكر بوقت متزامن مع اجتماع منصات المعارضة، في خطاب يتغنّى ببوادر النصر، فالمجتمع الدولي أبلغه أن الرسالة وصلت بشكل واضح هذه المرة، والمعارضة الآن جميعها تعيد ترتيب أوراقها، وستأتي بعد أيام قلائل، هي الفترة اللازمة لها لتستفيق من الصدمة لا أكثر.

الرسالة وصلت عبر منصتي موسكو والقاهرة في اجتماع الرياض الأخير، وعبر قنوات سياسية ودبلوماسية طافت على المعارضة قبيل الرياض، وبعده، وعبر مؤتمر للوسيط الدولي، أنّه آن أوان التحلي بالواقعية السياسية، و"البراغماتية"، والتخلّي عن المبادئ والشعارات الرنّانة.

الرسالة باختصار شديد: "تغيير نظام الأسد تحت غطاء الأمم المتحدة، بقرار دولي، بسبب ثورة شعبية: خط أحمر".

المنظومة الإقليمية والدولية ترفض هذا رفضاً قاطعاً، ففتح هذا الباب يعني عدم إغلاقه حتى يأتي عليها جميعها دون استثناء. موسكو أرسلت منصتها إلى الرياض لإبلاغ هذه الرسالة تحديداً، والقاهرة أرسلت منصتها بمبادرة "الحل العربي" بعيداً عن قرارات مجلس الأمن وخصوصاً 2254، المتضمن تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، واستبدالها بحكومة وحدة وطنية "موسّعة". ورسائل أخرى وصلت في اليومين الماضيين مفادها:

1- نجح النظام في تسويق نفسه كشريك دولي في مكافحة الإرهاب، فيما فشلت المعارضة في ذلك، وعليها أن تبذل جهداً أكبر، وتتوقف عن قتال النظام، وتتفرغ لمحاربة المنظمات الإرهابية.

2- يشترط النظام إعادة إعمار المدن فقط، وترك الأرياف، فهو يريد إقناع المجتمع الدولي أن التمرد في سوريا كان ثورة أرياف يسيطر عليها الجهل والتخلف بسبب التديّن السائد فيها، فيما بقيت النخب المثقفة في المدن موالية له.

3- يحمّل النظام عدداً من الدول العربية والأوربية مسؤولية حدوث مشكلة اللاجئين، ويشترط أن تغطّي هذه الدول تكاليف عودتهم، وتكاليف معيشتهم إلى حين استقرار اقتصاد البلاد. وهو لن يتحمّل عبء ذلك.

المعارضة اليوم دخلت في مراجعات حول وثائقها التأسيسية، ورؤاها السياسية، التي تتناقض مع كل ما سبق، وهي في حيرة من أمرها، بين القبول بهذه التنازلات المهينة، أو بين رفضها والثبات على مبادئها.

الجواب سهل: الثورة صنعت الخط الأحمر الذي لم يره الأب الهالك، وسيراه

ابنه الأعمى أولاً، وسيخضع له ثانياً، وسيقتلعه ثالثاً، وسيحاكمه رابعاً، وسينشئ دولة الحرية والكرامة خامساً.

كما إن الناس مضطرون لتغيير ساعاتهم عند عبور خط التاريخ الدولي، فالمنظومة الإقليمية والدولية كذلك مضطرة لتغيير سياستها حسب الخط الأحمر السوري الذي يزيل الأنظمة الديكتاتورية بثورة شعبية، وتحت غطاء قرارات أممية، وبذلك تنال شرف الحفاظ على المبادئ والأخلاق الإنسانية.

أما المعارضة فهي إما أن تثبت على خط التاريخ مع السوريين، أو فلتتنحّ جانباً وتدعهم يسيرون عليه فهو قرارهم ابتداءً وانتهاءً.