الأحد 2019/09/29

هل من فرق بالبدء بهيئة الحكم الانتقالية، أو اللجنة الدستورية في سوريا؟!

لم تهدأ بعد الزوبعة "الغبارية" التي تواجه اللجنة الدستورية بعد إعلان الأمين العام للأمم المتحدة عن تشكيلها، وعن بدء أعمالها نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول القادم.

هذه العواصف الكلامية لم ينجُ منها تشكيل تقريباً، على مسار عمر الثورة السورية، لا المجلس الوطني، ولا الائتلاف، ولا هيئة المفاوضات "الأولى"، ولا هيئة التفاوض "الثانية"، ولا وفد أستانا، أو سوتشي، ولا الحكومات المؤقتة، ولا المجالس العسكرية وهيئات الأركان. الحال نفسه كان يواجه المبادرات التي يعلن عنها بين الفينة والأخرى، والتي كان آخرها-على سبيل المثال-"مبادرة من أجل جمهوريّة سوريّة اتحاديّة".

لنعد إلى السؤال موضع البحث: هل من فرق بالبدء بهيئة الحكم الانتقالية، أو اللجنة الدستورية في سوريا؟!

تبدأ القصة من بيان جنيف 30يونيو/حزيران 2012، الذي نصّ على وجوب أن "تشمل الخطوات الرئيسية لأية عملية انتقالية ما يلي:

1-إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية.

وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة.

2-الشعب السوري هو من يقرر مستقبل البلد. ولا بد من تمكين جميع فئات المجتمع ومكوناته في الجمهورية العربية السورية من المشاركة في عملية الحوار الوطني. ويجب ألا تكون هذه العملية شاملة للجميع فحسب، بل يجب أيضاً أن تكون مُجدية -أي إن من الواجب تنفيذ نتائجها الرئيسية.

3-على هذا الأساس، يمكن أن يعاد النظر في النظام الدستوري والمنظومة القانونية. وأن تُعرض نتائج الصياغة الدستورية على الاستفتاء العام.

4-بعد إقامة النظام الدستوري الجديد، "من الضروري الإعداد لانتخابات حرة ونزيهة وتعددية وإجراؤها لشغل المؤسسات والهيئات الجديدة المنشأة".

ستبقى عناصر هذا النصّ هي المهيمنة على كل قرارات الأمم المتحدة اللاحقة، فقط هناك تباينات في التسميات مثلاً بين هيئة الحكم الانتقالية والحكم، أو إغفال متعمّد للترتيب الدقيق السابق، لكنّ المسارات التي فتحت إلى جانب مسار جنيف الأممي، مسار أستانا للدول الضامنة الثلاث روسيا وتركيا وإيران، ومسار مجموعة الدول المصغّرة الخمس ثم السبع: الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن ومصر وألمانيا، ستشهد خلافاً بين صياغة دستور جديد، أو إصلاح دستوري، وخلافات في مبادئ ومضامين وعناصر الإصلاح الدستوري والانتخابات والبيئة الآمنة والمحايدة، لكن الأمر الأهم في هذين المسارين هو غياب هيئة الحكم الانتقالي على حساب انفراد اللجنة الدستورية ببيان سوتشي30/1/2018، وعلى حساب الدستور والانتخابات والبيئة الآمنة والمحايدة في ورقة الدول الخمس 23/1/2018، ثم تقليصها إلى الدستور والانتخابات في ورقة الدول السبع 14/9/2018، لينتهي المطاف بمسار الدول السبع بمناقشة "وثيقة العمل الفرنسية" التي تقترح البدء بالانتخابات كطريق للحل السياسي بديل عن الطريق المسدود الذي وصل إليه تشكيل اللجنة الدستورية، لكن مع الإعلان عن تشكيلها بعد أيام من المبادرة الفرنسية هذه، سينتظر الفرنسيون وصول أعمال اللجنة الدستورية إلى طريق مسدود ليعاودوا طرح مبادرتهم، وقد لا يحتاجون إلى ذلك إذا كانت الأمور ستبقى معلّقة إلى عام 2021 موعد الانتخابات العامة المقرر في البلاد.

لندع الانتخابات جانباً، ولنعد إلى هيئة الحكم الانتقالي واللجنة الدستورية هل البدء بواحدة منهما يُحدث فرقاً لا تُحدثه الأخرى؟ أم إنّ النتائج المتوقّعة منهما متطابقة، أو متقاربة في أحسن تقدير؟

جزء كبير من الزوبعة التي تواجه اللجنة الدستورية لا يعدو كونه مزيجاً من المناكفات والكيديات السياسية، والمغالطات العقلية، والمصالح الشخصية، فما من ثمّة فرق جوهري بينها وبين هيئة الحكم الانتقالي إذا عدنا إلى الوثائق الدولية التي تتحدث عنهما، وإلى الواقع الفعلي الذي سيتحكّم بنتائج عملهما.

في الوثائق الدولية المشكلة واحدة تماماً بينهما، فتشكيل كل منهما يجب أن يكون من النظام ومن المعارضة ومن طرف ثالث موزّع بينهما، وسيّان إن كانت النسبة 40-40-20 لهيئة الحكم الانتقالية حسب "مسودة الإطار التنفيذي لبيان جنيف" الذي قدّمه المبعوث السابق "دي ميستورا"، أو 50-50-50 للجنة الدستورية حسب إعلان المبعوث الحالي "بيدرسن"؛ فمآل الأمر إلى أن يكون تقريباً مناصفة بين النظام والمعارضة، والشروط المسبقة التي يضعها النظام على العملية التفاوضية في عدم المساس بالسيادة الوطنية وتوابعها هي بحكم الشروط المسبقة التي تضعها المعارضة في اشتراط رحيل رأس النظام وتوابعه، وستبدأ العملية التفاوضية دون شروط مسبقة.

إذن فرصة القرارات التي يمكن أن تمررها المعارضة عبر هيئة الحكم الانتقالية تساوي فرصة تمرير القرارات في اللجنة الدستورية، ويمكن لمجموعة النظام تعطيل العمل في هيئة الحكم الانتقالية والإبقاء على استمرار وضع الحكم الحالي في البلاد دون تغيير يُذكر، وسحب ذلك على البيئة الآمنة والمحايدة التي في ظلها تجري العملية الدستورية، وتقام على أساسها الانتخابات، وبالتالي مخاطر استنساخ النظام مرة ثانية في إطار هذا التصور عالية جداً، إن لم تكن متحتّمة.

المغالطة الثانية في هذه الزوبعة أن مشكلة البلاد ليست في الدستور، وأن الثورة لم تقم لأجل تغيير الدستور، ومع أن أصل الموضوع صحيح، لكن يجب الاعتراف أيضاً أن ثمّة مشكلة حقيقية موجودة في الدستور الحالي تتمثل بالصلاحيات شبه المطلقة الممنوحة لمنصب الرئيس أيّاً كان، وهي واحدة من القضايا التي تحتاج إلى إصلاح لتفادي عودة الديكتاتورية، والتي هي جوهر الصراع الذي تمر به البلاد، لكن هذه المغالطة تُسقط عمداً أن المشكلة في سوريا ليست الحكومة أيضاً، وبالتالي فتشكيل هيئة الحكم الانتقالية لم يكن ليحلّ هذه المشكلة، وإذا كان الدستور ليس له قيمة في البلاد في ظل السلطة الديكتاتورية، فالحكومة كذلك ليس لها قيمة، وهذا أمر يتفق عليه السوريون، وها نحن اليوم في الحكومة السادسة منذ اندلاع الثورة، وبتعاقب تغيير الحكومات لم يتغيّر شيء على الأرض، استمرت عائلة الأسد، والأجهزة الأمنية والعسكرية في سلوكها الذي تعمل وفقه منذ خمسين عاماً في العنف الذي تمارسه ضد الشعب السوري، وهذه المنظومة الثلاثية لا تخرج عبر اتفاق سياسي هي طرف فيه، ولا تخرج إلا بهزيمة عسكرية ساحقة، أو بضغط دولي على غرار الضغط الذي أخرج هذه المنظومة من لبنان عام 2005.

إن كان لا بدّ من مقارنة ولو نظرية بين فرصة يمكن أن تلوح أمام هيئة الحكم الانتقالية أو اللجنة الدستورية لإحداث تغيير، فهي يمكن أن تكون أسهل عبر اللجنة الدستورية فيما لو استطاعت التوصّل إلى اتفاق حول نقل شكل الحكم إلى النظام البرلماني الذي يتيح التخلّص من رئيس الدولة، ويُبقي له صلاحيات محدودة أقرب منها للبروتوكولية منها للتشريعية والتنفيذية.

قد يكون النظام ارتكب خطأ ما بقبوله باللجنة الدستورية، فهو بعد ثماني سنوات، ولأول مرة ينتقل إلى أن يصبح طرفاً من ثلاثة أطراف تمثّل الشعب السوري، بعد أن كان هو كل شيء، والمصادر لإرادة السوريين وتطلّعاتهم.

الخلاصة أن مخاطر هيئة الحكم الانتقالي ومخاطر اللجنة الدستورية متقاربة، سواء كانت منفردة بالبدء بالثانية قبل الأولى، أو بالعكس، أو حتى باجتماعهما معاً في مسار متتابع حسب بيان جنيف والقرار 2254، كلّ ذلك سيكون النظام فيه شريكاً بالنصف على الأقل، ولذا بدل هذا الهجوم على اللجنة الدستورية فإنه يجب التفكير في طريقة الاستفادة من هذه الخطوة -ما دامت هي الوحيدة المتوفّرة- لتوسيع إضعاف شرعية النظام داخلياً وخارجياً، وتضييق حجم سلطاته، تمهيداً لتخلّي حلفائه عنه، ولتأسيس حياة سياسية حقيقية، وحكم جديد في البلاد.