الأربعاء 2019/01/16

هل الولايات المتحدة في سوريا على خطا الأيام الأخيرة في فيتنام؟

انتهى الاستعمار الفرنسي لفيتنام عام 1954 بتقسيمها إلى شطرين، فيتنام الشمالية الشيوعية، وفيتنام الجنوبية التي حظيت بالدعم الأمريكي، الذي بدأ على شكل إرسال مستشارين عسكريين فقط، إلى أن أرسل الرئيس "كينيدي" 400 جندي أمريكي نهاية عام 1961، ما لبث أن وصل عددهم إلى 11 ألف جندي في العام التالي بعد اشتداد النزاع بين شطري فيتنام، وبعد التدخل العسكري الأمريكي المباشر عام 1965 وصل العدد إلى 200 ألف جندي أمريكي في عهد الرئيس جونسون، ليصل إلى ما يزيد عن نصف مليون جندي عام 1968، وفور وصول الرئيس نيكسون للحكم عام 1969 أعلن بدء سحب القوات الأمريكية من فيتنام، إلى أن غادر آخر جندي أمريكي الأراضي الفيتنامية عام 1973 بعد خسارتهم 57 ألف قتيل، و153 ألف جريح، فيما بلغت خسائر الفيتناميين 2 مليون قتيل، و3 مليون جريح، و 12 مليون لاجئ.

كانت الخسائر المادية والبشرية والحرب البشعة والممارسات اللاإنسانية التي ترتكبها القوات الأمريكية بحق الفيتناميين تضغط باتجاه الانسحاب من هذه الحرب القذرة، وكانت المظاهرات في الشارع الأمريكي، والحملات الصحفية والإعلامية تطالب هي الأخرى بوقف الحرب وإعادة الجنود الأمريكيين إلى وطنهم.

"مبدأ-عقيدة نيكسون" والنسخة طبق الأصل عند ترامب:

يتلخّص مبدأ نيكسون في أن الولايات المتحدة ستسحب جنودها من فيتنام، وتعمل على إقناع حلفائها ببذل المزيد من الجهد والمال في جميع مناطق العالم، وتشجيع الدول الآسيوية في المنطقة على تحمّل المسؤولية في حل هذه المشكلة، وأنه سيطبّق نفس السياسة على مناطق أخرى، بما في ذلك الشرق الأوسط.

في جولاته بالمنطقة تحدث نيكسون عن استراتيجياته التي يريد العمل عليها، ورَد في مذكّراته: "سيقول الآسيويون في كل بلد نقوم بزيارته إنهم لا يريدون أن يتم إملاؤهم من الخارج، وأنّ آسيا للآسيويين. وهذا ما نريده، وهذا هو الدور الذي يجب أن نلعبه. يجب أن نساعد لكن لا ينبغي لنا أن نُملي". وقال: "ولكن فيما يتعلق بدورنا، يجب أن نتجنب نوع السياسة التي ستجعل الدول في آسيا تعتمد علينا لدرجة أننا ننجرّ إلى صراعات مثل تلك التي نعيشها في فيتنام"، و"أنه فيما يتعلق بمشاكل الدفاع العسكري، باستثناء تهديد القوة الكبرى التي تنطوي على أسلحة نووية، فإن الولايات المتحدة تشجّع وتمتلك الحق في توقُّع أن يتم التعامل مع هذه المشكلة من جانب الدول الآسيوية نفسها والمسؤولية عنها".

كانت الولايات المتحدة قبل ذلك حاولت تغيير استراتيجيتها في فيتنام تحت شعار "فتنمة" (Vitenamization) الصراع، وهي استراتيجية ارتكزت على تدريب وتمكين القوات العسكرية الفيتنامية في الجنوب وإحالة أعباء المعركة لتلك القوات.  وحصر دور القوات الأمريكية بالضربات الجوية.

أثارت أقوال الرئيس نيكسون اهتماما كبيرا في كل من آسيا والولايات المتحدة وباقي دول العالم. وأصبحت واحدة من أهم موضوعات السياسة الخارجية الرئيسية، لكن إدارة نيكسون كان لها رأي آخر، يقول هنري كيسنجر إنه "أثناء التحضير للزيارة الآسيوية، ناقش هو ونيكسون إعادة تحديد معالم الالتزامات الأمريكية بالمنطقة في ضوء التجربة الأمريكية في فيتنام، لكنه فوجئ بتصريحات نيكسون غير الرسمية في غوام". وقال "كانت النية الأصلية هي القيام بخطاب مماثل في وقت لاحق من الصيف".

حدث شيء من التراجع عند نيكسون الذي كتب في مذكراته أن "العقيدة التي أعلنها في غوام قد أُسيء تفسيرها من قبل البعض على أنها تشير إلى انسحاب أمريكي من آسيا، وكذلك أجزاء أخرى من العالم". وأوضح أنها " لم تكن صيغة لإخراج أمريكا من آسيا، بل هي التي وفّرت الأساس الوحيد السليم لأمريكا في البقاء والاستمرار بلعب دور مسؤول في مساعدة الدول غير الشيوعية والمحايدة وكذلك الحلفاء في آسيا للدفاع عن استقلالهم".

الآن لو تتبعنا ما حدث مع ترامب لوجدنا أنه نسخة طبق الأصل تقريباً عن خطوات نيكسون السابقة:

يريد ترامب من حلفاء الولايات المتحدة حول العالم بذل المزيد من الجهد والمال في حل الصراعات، وعدم اعتبار الولايات المتحدة الشرطي الدولي المناط به التدخل لحل هذه النزاعات.

يعلن ترامب بدء سحب جنوده من سوريا، والمنطقة عموماً، وإعادتهم إلى أرض الوطن. يطلب من دول المنطقة خصوصاً الانخراط الحقيقي والجدّي لتلافي الأخطار المحيطة بهم نتيجة الحرب في سوريا. ويبقي الدور الأمريكي في معالجة الأخطار الكبرى مثل الملف النووي الإيراني. يطبّق استراتيجية "كردنة" الصراع في سوريا، على غرار "فتنمة" الحرب في فيتنام، باعتماده على المليشيات الكردية شمال شرق البلاد. لا يعتبر ذلك انسحاباً من منطقة الشرق الأوسط، بل تحوّل نحو الدور الأنسب والأكثر فائدة للولايات المتحدة. ثم يعدّل شيئاً من أقواله بسبب المعارضة التي تواجهه من أفراد إدارته، دون التخلّي عن المبدأ الرئيسي له.

استغرق الانسحاب الأمريكي من فيتنام قرابة 4 سنوات، ومع كل محاولات الإدارة الأمريكية آنذاك للمحافظة على حلفائها الجنوبيين الذين قاتلوا إلى جانب جنودها، إلا أن الأمر انتهى بكارثة وبهزيمة ساحقة لهم، أظهرت أن الولايات المتحدة لم تكن مهتمة بمصيرهم، ولا بما سيواجههم على يد جيرانهم الشماليين عقب انسحاب الجنود الأمريكيين، اعتبر الجنوبيون ذلك بمثابة خيانة لهم، لكن الولايات المتحدة كسبت رهاناتها في الحفاظ على مصالحها القومية، وعلاقاتها الدولية، ونفوذها في منطقة شرق آسيا.

الأمور تجري في سوريا هكذا. "كردنة" للحرب، وجرّ أكراد سوريا إلى نزاع إن كان مع جيرانهم الشماليين الأتراك، أو مع المكونات الأخرى من أبناء المنطقة وخصوصاً العرب، والأمريكيون كما فعلوا في فيتنام لن يستطيعوا تأمين الحماية اللازمة للمقاتلين الأكراد الذين لن يجدوا خيارات أخرى جيدة لا مع النظام ولا مع حلفائه الروس، نتائج المصالحات في أماكن أخرى ستتكرر مع المسلحين الأكراد، وبالتالي فإن الخيار الوحيد الذي يمكن أن يحقق للأكراد مطالبهم هو الاتفاق مع المعارضة الوطنية المنتشرة غرب الفرات على مبادرة وطنية تمنحهم جميعاً موقفاً تفاوضياً أقوى في حال بدء عملية انتقال سياسي في البلاد، حسب قرارات مجلس الأمن الدولي.

لا يبدو أن مليشيات "ب ي د" قد حسمت خياراتها حتى الآن، وقد يكون من المناسب أن تقدم لهم المعارضة السورية مبادرة ما في هذا الوقت.