الأثنين 2019/02/18

ما الذي يزعج الأسد في هذه المرحلة؟

خطاب "بشار الأسد" أمام ما يسمى بـ"المجالس المحلية" يوم 17/2/2019، وبالنظر إلى كمّ الشتائم التي احتواها يعد خطاباً غير مسبوق لا في خطاباته، ولا في خطاب أي رئيس نظام آخر على وجه الأرض، هذا الكمّ الذي يوحي للسامع أن البلاد تدخل للتوّ في أزمة تخشى استفحالها، وليس في بلاد أعلن نظامها أكثر من مرة أنه حققّ "النصر" على معارضيه، وأنه في طور بسط السيطرة والاستقرار بعد حالة الفوضى التي مرّت به.

لنبدأ أوّلاً من تناسب الخطاب مع نوعية الحاضرين، فوجود المجالس المحلية كان فرصة للتركيز على الشأن الداخلي، وهموم المواطن السوري المعاشية اليومية، هذا المواطن الذي أعلن نظامه منذ العام الفائت أن الحرب "انتهت"، وأن "الاستقرار الأمني والاقتصادي" سيعمّ على الأقل المناطق الخاضعة لسيطرته، وأن معاناة الموالين له ستنتهي، وأنهم ومناطقهم سيكافؤون هم قبل غيرهم –إن لم يكونوا وحدهم-على وقوفهم إلى جانب الأسد، لكن ظهر زيف كل هذه الادّعاءات، جاءت أزمة الغاز لتفجّر غضب الموالاة، وخصوصاً في حاضنته "العَلَويّة" التي وجّهت عبر وسائل التواصل الاجتماعي نقداً لاذعاً للأوضاع المعيشية البائسة، حتى إنهم صاروا يحسدون النازحين واللاجئين ويتمنّون لو كانوا مكانهم.

هؤلاء برأي النظام انتهازيّون يهدفون "إلى حصد أكبر قدر ممكن من التصفيق أو الإعجاب أو اللايكات على مواقع التواصل الاجتماعي" ويطبّقون الخطة الثالثة للأعداء "وهي خلق الفوضى من داخل المجتمع السوري وبهذا الجو الفوضوي يغرق البعض باستعراض عضلاته النقدية والفكرية والبلاغية" وهي واحدة من الحروب الأربعة التي يخوضها الأسد حسب زعمه: الحرب العسكرية، وحرب الحصار، وحرب الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وأخيراً حرب الفاسدين المتضررين.

حل أزمة الغاز كما يقترح الأسد تقودنا إلى سياسات "التمييز العنصري والمناطقي" التي سينتهجها النظام في حل كل المشاكل المستقبلية، وحتى في برامج إعادة الإعمار، فآليات التوزيع "التقليدية" للمواد البترولية حسب قطّاعات العمل في المحافظات "يجب أن تتغيّر وتكون بحسب الاستهلاك وهنا يؤخذ بالاعتبار عدد السكان، عدد المنشآت الصناعية الحرفية، الزراعية، الآليات، وتوزع بنسب معينة تتناسب مع الاستهلاك الحقيقي في هذه المحافظات".

النظام يريد أن تستأثر حاضنته الموالية له بكل هذه المقدّرات؛ ففي مناطقهم التي لم تتعرّض للقصف والتدمير تكدّست هذه الأعداد الكبيرة من السوريين، وإليها نقل التجار والصناعيون تجاراتهم ومصانعهم، والنظام بدل أن يعمل على عودتهم التدريجية إلى المناطق التي كانوا فيها أصلاً، نراه يطرح حلولاً تكرّس هذا الواقع الجديد الديموغرافي والاقتصادي، وهذا الحل بهذه الطريقة يقودنا إلى استنتاج أن النظام لا يريد عودتهم إلى مناطقهم الأصلية لأنه لا يثق بهم، ويخشى من انقلابهم عليه مرة ثانية فيما هم الآن تحت السيطرة الكاملة.

وبالطبع في نهاية كلامه حول هذا الملف لم ينس أن يلقي بمسؤوليته من "الدولة المركزية" على كاهل المجالس المحلية ليضعها هي في فوّهة المدفع أمام الاحتياجات اليومية الضرورية لحياة المواطن، بحيث تكون هي من يتلقّى الهجوم، ويتعرّض للنقد الذي رأيناه يتدحرج ويكبر ككرة النار التي وصلت للمساس برأس النظام مباشرة، ولكي يوقف هذا الهجوم اللاذع عليه شخصياً قال : "دائما نطلب الحل من الأعلى من القمة إلى القاعدة في هذه الحالة يجب أن يكون الحل من القمة ومن القاعدة وربما تكون القاعدة أقدر على اقتراح الحلول التكتيكية ليس الاستراتيجية وهذا التشارك بين القمة والقاعدة هو الذي يحل معظم مشاكلنا التي نعاني منها وخاصة في الظروف الحالية أي ظروف الحرب"

ما الذي يزعج الأسد في هذه المرحلة؟

أشياء كثيرة، وبشار الأسد ليس منزعجاً فقط، بل يبدو عليه الهلع، ويحاول تحشيد الموالين له خلفه صفّاً واحداً فهو يقول: "يتطلب الوضع الحالي الحذر الشديد في هذه المرحلة".

"علينا أولا ألا نعتقد خطأ كما حصل خلال العام الماضي أن الحرب انتهت" هذه هي كلمة السرّ في الحالة الهستيرية التي تنتاب النظام كله الآن، سنوات الحرب الثماني الماضية أنهكته تماماً، ونخرت جسده الهشّ أصلاً، وهو ظنّ أن الحرب انتهت، وأنه خرج منتصراً منها، وأن المعارضة منيت بهزيمة مدوّية لا تؤهلها للحصول على أي مكسب سياسي، وأن قطار التطبيع معه وإعادة تأهيله قد بدأ يسير على السكّة، وأن جامعة الدول العربية تتزيّن لاستقبال "عودته المظفّرة"، وأن أموال مشاريع إعادة الإعمار ستبدأ بالتدفق بين لحظة وأخرى، لكن كل ذلك نوقّف فجأة، وعادت الأمور إلى نقطة الصفر.

قراءة تاريخ الخطاب البائس بعد ثلاثة أيام من مؤتمر وارسو الذي جعل حليفه الإيراني في أضعف حالاته، توحي أن النظام يحسّ بالخطر الشديد، فالعقوبات المشددة على إيران ستضطرها لوقف الدعم المالي والعسكري الذي لولاه لسقط منذ زمن بعيد، وعلى جانب الحليف اللبناني "حزب الله" فبعد أزمة فنزويلا، والصعوبات التي تواجهها شبكات الجريمة المنظمة التي تموّل الحزب بعائدات تجارة المخدرات وغيرها، يمرّ في أزمة مالية خانقة، ويعجز كما تشير التقارير اليوم عن دفع مرتبات عناصره، وهو ووفق سيطرته على مقاليد الحكم في لبنان قد يسعى للتشبّث بوجود اللاجئين السوريين على الأراضي اللبنانية ليستفيد من المساعدات الدولية المخصصة لهم، بينما كان النظام يمنّي نفسه بإجبار حزب الله اللاجئين على العودة إلى سوريا، حيث جهّز النظام هو الآخر نفسه للاستفادة من المساعدات المخصصة لهم، وللاستفادة من أموال مشاريع إعادة الإعمار المرهونة بعودتهم.

الأسد صبّ جام غضبه على الجميع دون استثناء، ولم يوفّر حتى الروس ولا إيران هذه المرة، مؤتمر سوتشي الذي ترعاه هاتان الحليفتان للنظام يقول عنه " نحن لم نرسل ممثلين لنا" وأن الطرف المشارك فيه أي روسيا وإيران "لا يمثّل الحكومة السورية بالمعنى الحرفي" هذا يغنينا عن استعراض هجومه على المنظمات والدول الفاسدة التي ترعى وتؤوي اللاجئين، ومنها الأردن وحكومة حزب الله الجديدة في لبنان الذين " تمسكوا بملف اللاجئين بأظافرهم وأسنانهم" وعلى تركيا والولايات المتحدة والدول "الداعمة للإرهاب" العربية والأجنبية، وعلى العملاء الذين وضعوا أنفسهم بتصرّف "هؤلاء الأعداء".

النظام الذي سوّق نفسه –ونجح في ذلك -على أنه ضرورة دولية كشريك في مكافحة الإرهاب فقد هذا الكرت تماماً، في نفس يوم هذا الخطاب أعلن ترامب هزيمة تنظيم الدولة في المنطقة الشرقية في سوريا، بينما مناطق انتشار "هيئة تحرير الشام" مشمولة باتفاقية خفض التصعيد بين موسكو وأنقرة، اللتين تعملان على معالجة هذا الملف بمعزل عن النظام.

يعود الأسد للتلويح بالحرب ضد القوات الأمريكية والتركية والفصائل المدعومة منهما، و"تحرير كل شبر من الاحتلال" مهما كان نوعه، لكنه يغفل كيف سيتمكن من ذلك وهو يقف حائراً عن تأمين جرّة الغاز للمواطن السوري.